لم ينقطع الحديث عن ضرورة عودة المصارف إلى تقديم التسليفات، منذ بداية الأزمة. إلّا أنّ هذا النقاش استعر أخيراً مع كلام حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري عن ذلك في المنتدى العقاري الثاني في الشهر الفائت، ثمّ بعد موقف الأمين العام لجمعية المصارف فادي خلف في افتتاحية التقرير الشهري للجمعية قبل أيام.
في حينه أكّد الحاكم أنّ الوقت قد حان لعودة التسليفات في المصارف باعتبار أنّ هذا القطاع هو المحرّك الأساسي للنموّ، مطالباً بـ”ضرورة إنجاز القوانين الإصلاحية وحلّ قضية المودعين”. أمّا خلف فشدّد على أهمية القطاع المصرفي وعودته إلى ممارسة دوره الطبيعي، أي إلى دور التسليف.
قبل الأزمة، كان حجم التسليفات قريباً من 50 مليار دولار، (الناتج المحلّي في حينه بلغ قرابة 54 مليار دولار)، وهذا يعني أنّ الاقتصاد اللبناني برمّته كان قائماً تقريباً على الاستدانة من المصارف!
أحجية البيضة والدّجاجة
الدعوة إلى عودة التسليفات اليوم اصطدمت بجُملة من الاعتراضات على “نوايا التسليف”، وذلك نتيجة تأكيدات المصارف المتكرّرة لعدم قدرتها على إعادة الودائع لأصحابها: إذ كيف يمكن للمصارف أن تقدّم تسليفات جديدة لعملاء جدد في حال كانت عاجزةً عن ردّ الودائع؟ وهو بدوره ما أعاد النقاش حول الثقة بالمصارف وقدرتها على استقطاب الودائع الطازجة.
هذا الموقف المُعقّد يشبه في الشكل أحجية “البيضة والدجاجة”: فهل نعيد الودائع قبل التسليف أو نطلق عمليات التسليف حتى نستطيع ردّ الودائع؟
لا يمكن عودة المصارف إلى تقديم التسليفات للشركات والأفراد، إلّا بعد سنّ قانون في مجلس النواب يحدّد بشكل واضح وصريح
هذا السؤال، بالإضافة إلى أسئلة أخرى، لا تجد لها إجابات حتى الآن لدى معشر قطاع المصارف والسلطة النقدية، إذ ثمّة حقائق ترفض بعض الجهات المذكورة الاعتراف بها حتى يومنا هذا، وهي كالتالي:
1- لا أحد في الجهات المصرفية أو في السلطة النقدية في البلاد يقرّ ويعترف للمودعين بأنّ استعادة ودائعهم لن تتمّ إلّا على مراحل، وثمّة استحالة لردّها دفعة واحدة. بل تتمسّك جميع الأطراف النقدية والسياسية على السواء، ولأسباب مبرّرة وغير مبرّرة، بشعارات كاذبة ومواربة من صنف “الودائع مقدّسة”… وهذا طبعاً غير دقيق، لأنّ أيّ قطاع مصرفيّ في العالم مهما بلغت ملاءته، لا يقدر على ردّ ودائع مودعيه دفعة واحدة. وعليه، فإنّ الودائع التي تراكمت بالتدريج قد لا تعود إلّا بالتدريج (ما خلا الودائع المتواضعة)… وهذه حقيقة لا يبوح بها أحد للمودعين.
2- ربطاً بما سبق، فإنّ المصارف والسلطتين النقدية والمالية في البلاد ليست مطالبة بإعادة الودائع للمودعين “فوراً”، بقدر ما هي مطالبة بـ”طمأنة” المودعين على ودائعهم بشكل جدّي، وليس بشعارات “الودائع مقدّسة”، وذلك من خلال إفساح المجال أمام حصولهم على حاجاتهم اليومية أو الشهرية من أموالهم (كابيتال كونترول شفّاف وصادق)، وهذا كفيل بحلّ جزء كبير من المشكلة وبثّ الطمأنينة في النفوس. لكنّ التسويف والمماطلة والتخدير بالكلام المعسول بلا أيّ أفق على مدى 4 سنوات، هي أعذار كافية لرفع منسوب الاعتراض على التسليف.
3- القول إنّ المصارف “تملك كلّ الودائع وتحجبها عن أصحابها”، أو إنّها “لا تملك الودائع البتّة”، هو كلام غير دقيق. فسيولة المصارف متفاوتة، كما أنّ بعضها بلا شكّ تملك السيولة لكن تحتفظ بها إلى حين معرفة مصير ودائعها المحتجزة لدى مصرف لبنان، والمقدّرة بنحو 83 مليار دولار.
الدعوة إلى عودة التسليفات اليوم اصطدمت بجُملة من الاعتراضات على “نوايا التسليف”، وذلك نتيجة تأكيدات المصارف المتكرّرة لعدم قدرتها على إعادة الودائع لأصحابها
4- لا يمكن عودة المصارف (بعض المصارف وليس كلّها طبعاً) إلى تقديم التسليفات للشركات والأفراد، إلّا بعد سنّ قانون في مجلس النواب يحدّد بشكل واضح وصريح ولا لبس فيه أنّ أيّ عملية تسليف أو قرض تقدّمه المصارف من اليوم فصاعداً لا يمكن أن يُردّ إلّا بالعملة المدفوعة نفسها، وليس بموجب شيك مصرفي من الودائع المحتجبة (اللولار أو الليرات المحتجبة). بمعنى آخر، إذا أقرض مصرف أحد عملائه مبلغ 5,000 دولار “فريش”، فإنّ العميل مطالب بردّها بالدولار “الفريش”، بمعزل عن أيّ ذريعة أو حجّة أو قرينة بأيّ نصّ قانوني يقول بخلاف ذلك… فمن دون قانون كهذا لا إمكانية لعودة المصارف إلى التسليف.
5- التسليفات التي تقدّمها المصارف في أيّ دولة في العالم، هي العمود الفقري لأيّ نشاط تجاري ناجح، وسبب جوهري للنموّ الاقتصادي. وفي حالة لبنان في ظلّ الأزمة، فإنّ عودة التسليفات تتخطّى “معضلة الودائع” لتطال المصلحة العامة لجميع المواطنين اللبنانيين دون استثناء… فغياب التسليفات هو “مأزق اقتصادي” لم يختبره أغلب اللبنانيين حتى اللحظة، وسوف يشعرون بأهمّيته حينما يضطرّون إلى تبديل سيّاراتهم في السنوات القليلة المقبلة، أو حينما يهمّون بشراء الشقق أو حتى الآلات الكهربائية لزوم المنازل التي أصبح ثمن القطعة الواحدة منها (برّاد أو غسّالة مثلاً) يوازي 4 أو 5 أو حتى 6 أضعاف رواتب ذوي المداخيل المحدودة.
6- الحديث عن استعادة الثقة بالمصارف هو أمر سخيف ولا قيمة له في هذا التوقيت، لأنّ التسليف أو الاقتراض ليسا بحاجة إلى ثقة ما دام “طالبُ الثقة” هو “طالبَ قرض”، أي مَدين تقع عليه مسؤولية ردّ القرض للمصرف وليس العكس… فما حاجة المدين إلى الثقة بمصرف يقترض منه المال في حال عادت التسليفات؟
ذرّ رمادٍ في العيون
7- الحديث عن عودة التسليفات بهذه الطريقة العشوائية (مثلما يحصل اليوم) هو “ذرّ رمادٍ في العيون” إن لم تعلن المصارف المستعدّة للتسليف مجدّداً أسماءها، وإن لم يقترن ذلك بنقاش جدّي حول:
الحديث عن استعادة الثقة بالمصارف هو أمر سخيف ولا قيمة له في هذا التوقيت، لأنّ التسليف أو الاقتراض ليسا بحاجة إلى ثقة
– طريقة احتساب معدّل الفائدة.
– طريقة تجزئة أرباح المصارف من التسليفات نفسها وفق آلية واضحة لاقتطاع جزء منها للودائع القديمة.
وإلّا فما الذي يمنع المصارف من أن تحتفظ بأرباح التسليفات أو تحوّلها إلى الخارج، من دون أن تلتزم ردّ أموال المودعين؟
8- التضارب في المصالح بين مصارف مستعدّة للتسليف ثمّ ردّ الودائع، وبين أخرى ترفض التسليف وتنتظر خطّة الحكومة لمعرفة مصير ودائعها، سوف يزيد من منسوب الشرخ بين المصارف نفسها، ويهدّد بانهيار “وحدة الصفّ” التي دأبت جمعية المصارف على إظهارها من بداية الأزمة… وهذا التهديد بدأ بالظهور جليّاً من خلال الخلافات التي تعتري انتخاب إدارة جديدة لجمعية المصارف.
9- من الصعب عودة المصارف إلى التسليف في الداخل اللبناني ما دامت نسبة الفوائد خارج لبنان (خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي) فوق 5%. لأنّ تلك النسبة هي “عامل إغرائي جاذب” لجميع المصارف في العالم، فما بالك بالمصارف اللبنانية التي تفضّل الاستفادة من تلك النسب بدلاً من إقراض المواطنين في هذه الظروف وبدولة مجهولة الأفق اقتصادياً وسياسياً وأمنيّاً؟
إقرأ أيضاً: مشاكل الكهرباء وانهيار الإدارات: مصرف لبنان تمسّك بالإصلاحات
في المحصّلة، القول إنّ بعض المصارف مستعدّة لتقديم التسليفات من جديد هو أمر جيّد ومطلوب، ويجب ألّا يثير حساسية المودعين. بل على العكس، فقد يشكّل لهم “ضمانة إضافية” لاحتمال استعادتهم لودائعهم، لكن بشرط أن تكون تلك العودة مقرونة بهيكل تنظيمي متين ترعاه حاكمية مصرف لبنان وتحميه، لأنّ اتّهام المصارف بأنّها “مصارف زومبي”*، ثمّ الاعتراض على قيامها بدورها الطبيعي، هما بمنزلة دفع لها إلى أن تكون “مصارف زومبي” بالفعل، وليس العكس.
* “المصرف الزومبي”: هو مصرف ذات قيمة اقتصادية سالبة، لكن يستمرّ في العمل لأنّ قدرته على سداد ديونه تكون من خلال دعم حكومي ضمنيّ أو صريح.
لمتابعة الكاتب على X: