أصبح الخلاف على حماس وبسببها خلافاً في لبنان على الجماعة الإسلامية وبسبب مواقفها منذ طوفان الأقصى 7 تشرين الأول من العام الماضي، وانضمامها إلى حرب الإسناد لغزّة التي يقودها الحزب. ثمّ صار أخيراً تهجّماً من بعض خطباء المساجد على الدكتور رضوان السيّد بسبب مقالاته الأخيرة في موقع “أساس ميديا”، لا سيما المقال الموسوم: “سُنّة لبنان “تُغويهم” الحرب… على المفتي أن يتدخّل”، والذي دعا فيه صراحة سماحة المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان إلى ضبط الجهاز الديني، من خطباء وأئمّة ومفتين، وأورد اعتراضه على بعضهم وسمّاهم بالاسم، وأبدى قلقه من رفع مفتي زحلة والبقاع الشيخ علي الغزّاوي بندقية في خطاب جماهيري مهدّداً إسرائيل بالمقاومة المسلّحة إن حاولت اجتياح لبنان. كما طالب رضوان السيّد سماحته بالتوجّه إلى الجمهور السُّنّي من أجل الهدوء والتعقّل. أمّا بعض ردود حركة حماس والجماعة الإسلامية على مقال الدكتور رضوان فكانت نوعاً من التهجّم الشخصي من دون الدخول في نقاش معمّق لما أثاره. فقد حاول بيان حركة حماس التصغير من شأن الباحث المعروف في العالم العربي في مجال الدراسات الإسلامية حين وصفه بـ”الصحافيّ”، وليست مهنة الصحافة بسُبّة أو مناط تحقير وتعريض، كما نال موقع “أساس ميديا” نصيبه من الشتائم، حين وصفه نائب الجماعة في بيروت عماد الحوت بأنّه موقع أصفر، وأقلام كتّابه صُفر أيضاً.
المطلوب من هذه العمائم، وفي مقدّمها عمامة المفتي، إدارة الخلاف الناشئ حتى لا يتحوّل إلى فتنة داخلية. فليس صحيحاً أنّ كلّ السُّنّة ضدّ حركة حماس
ما هو جوهر الخلاف؟ وما هو المطلوب؟
لا يمكن إدراك حجم المشكلة وتعقيدها، إن حاولنا اختزالها بعنصر واحد منها، وهو إغواء شباب السُّنّة بحمل السلاح، بل توريطهم في تشكيل ميليشيا مسلّحة دون لحظ أنّ ما يجري في غزة من فظائع تحت أنظار العالم ومؤسّساته الإقليمية والدولية دون فعل أيّ شيء، هو أكبر حافز للشباب في العالم، وأسوأ محرّض على العنف أو تعميم رؤية محدّدة، وهي نجاعة الدولة الوطنية أو فشلها في لبنان تحديداً، لتصبح هي الجوهر والأساس في الحكم على الأحزاب والقوى السياسية وغير السياسية، في حين أنّ فشل الدولة الوطنية في لبنان قديم جداً قبل ظهور أيّ ميليشيا خارج الدولة، بل العطب موجود في البنية الأساسية، ولا يريد اللبنانيون أو كثير منهم تناول الدواء، وهو اتفاق الطائف، أو الدعوة إلى التخلّي عن القضايا العربية بحجّة وجود مؤسّسات متخصّصة للمعالجة، كجامعة الدول العربية ومنظّمة الأمم المتحدة، وهي مؤسّسات فاشلة تاريخياً، ولا حاجة لإيراد الأمثلة، أو سحب النزاع في العالم العربي حول جماعات الإسلام السياسي على ما يجري في لبنان، فيصبح الخطاب الناقد جزءاً من ذاك الصراع، ولا نحتاج في لبنان إلى استيراد مشكلة إضافية نحن في غنى عنها تماماً، أو محاولة الاستقواء بطرف قويّ تسليحاً وتجهيزاً في لبنان (الحزب) لنفخ الروح في جسم سياسي ضعيف (الجماعة)، وربّما محاولة جعله الممثّل الوحيد للسُّنّة في لبنان، وهو تكرار لنموذج غير صالح أصلاً بالمفهوم الوطني، ولا يحتمله لبنان ولا السُّنّة، أو الركون إلى خيار استراتيجي دون نقاش أحد من الأطراف السُنّيّة الأخرى (خوض المعركة انطلاقاً من الجنوب تحت جناح الحزب)، بل من دون تقديم أيّ طرح أو توضيح لما يجري، كالذي قامت به الجماعة الإسلامية في لبنان، أو محاولة إسكات الأصوات السُّنّية المعترضة استناداً واستقواء بقعقعة السلاح في غزّة، بالقمع اللفظي في الداخل اللبناني الطافح ببيانات وخطابات التخوين، لأنّ ذلك يعزّز الاعتراض ويقوّيه مع الوقت لا العكس، وتحديداً حين ينجلي الغبار، وليس من المصلحة تجهيز الساحة السُّنّية المنهكة أساساً لنزاع جديد لا طائل منه. والأهمّ من ذلك كلّه، التساؤل عن دور دار الفتوى، التي أضحت بغياب المرجعية السياسية السُّنّية المرجعية الأساسية، لا سيما في المجال الديني العامّ. هل هو الإرشاد والتوجيه بشكل عامّ، أم الضبط الإداري الصارم للجهاز الديني بشكل خاص، أم رعاية النقاش والحوار داخل الأوساط السُّنّية المختلفة بدل ترك الساحة لكلّ مجتهد وما يراه؟
لا يمكن إدراك حجم المشكلة وتعقيدها، إن حاولنا اختزالها بعنصر واحد منها، وهو إغواء شباب السُّنّة بحمل السلاح، بل توريطهم في تشكيل ميليشيا مسلّحة
ملاحظات أساسيّة
قبل الدخول في ما هو مطلوب من سماحة مفتي الجمهورية في سياق ما طرحه الدكتور رضوان السيّد، لا بدّ من إيراد الملاحظات الأساسية التالية:
أولاً، إنّ الدكتور رضوان السيّد من أهمّ الباحثين في الدراسات الإسلامية في لبنان والعالم العربي. وكتبه ودراساته لا غنى عنها لأيّ باحث في الفكر السياسي الإسلامي الوسيط. فهو مرجع في هذا المجال. كما له آراؤه المعروفة في الإسلام السياسي وجماعاته السابقة والراهنة، ليس الآن، بل منذ عقود من الزمان. وعلى هذا، لا يجوز للمشايخ والخطباء التهوين من قدر الرجل، ولا من أمثاله، السائرين في مجال البحث الأكاديمي الجادّ، ولا اتّهام الأفراد بخفّة ونَزَق، خاصة إذا كانوا من الأكاديميين المعروفين. الاختلاف في وجهات النظر لا يبيح التعرّض له بما هو خارج النقد الموضوعي، فالحجّة تقارعها الحجّة. ومن يريد التعرّف على رضوان السيّد، فها هي كتبه كلّها متاحة لمن أراد. وليطّلع عليها من أوّلها إلى آخرها، قبل إصدار الأحكام المتعجّلة، على الشخص وسيرته، كما حدث في الأيام القليلة الفائتة.
ثانياً، أسلوب الدكتور رضوان في مقالاته الأخيرة التي أثارت النقد من جانب حماس والجماعة، كما من بعض المشايخ، يحتمل جزءاً من المسؤولية عن هذا اللغط. فمن حرص الدكتور السيّد على مصلحة السُّنّة في لبنان، وعلى دورهم في هذا اللبنان، وعلى لبنان نفسه، امتزجت كلماته بشيء من القسوة في الطرح. فانخراط الجماعة الإسلامية في حرب الإسناد ليس كتصريح بعض المشايخ نصرةً لغزّة، وهو غير رفع البندقية من جانب المفتي الغزاوي ردّاً على تهديد لبنان بإرجاعه إلى العصر الحجري. فلكلّ موقف من هذه المواقف مقالٌ ووجهةٌ، وغرضٌ ومآلٌ. ولا ينبغي الخلط بين النيّات والمقاصد.
يقع العبء بالدرجة الأولى على مقام الإفتاء، ليس لاجتراح الأعاجيب، بل لإدارة الحوار داخل الساحة السُّنّية
ثالثاً، إنّ دعوة السيّد الموجّهة إلى سماحة مفتي الجمهورية للتدخّل من أجل ضبط الجهاز الديني، كما قال، لا يمكن أن تستوعب فعّاليات الجماعة الإسلامية نفسها. كما أنّه ليس من عادة دار الفتوى ضبط المشايخ بالطريقة التي أشار إليها السيّد. فهذا لبنان، وليس أيّ دولة عربية أو إسلامية. الدعوة إلى استعمال الضبط تُغفل عدم توافر الأدوات الكافية، ولا وسائل التأثير، لأسباب يعرفها القاصي والداني. وعادة ما تُصدر دار الفتوى التوجيهات والإرشادات، وتتّخذ قرارات حاسمة في أوقات نادرة، ولن تتصدّى للمتحمّسين الآن من أجل غزة، إلا الاحتواء الهادئ والاستيعاب المتدرّج.
رابعاً، إنّ انخراط الجماعة الإسلامية في حلف وثيق مع الحزب، ولو من أجل قضيّة واحدة هي نصرة أهل غزة، يحتمل في طيّاته إشكاليات كبرى وجملة من المتناقضات، التي لا تُعرف كيفية حلّها، أو كيفية تعاطي قيادة الجماعة معها. فالمشكلة المزمنة هي وجود ميليشيا مسلّحة خارج نطاق الدولة، بل من دون أيّ استراتيجية دفاعية. والمشكلة ذات الطابع الشيعي المحض جرى التعامل معها بسهولة نسبية على مرّ السنوات والعقود، بل تكيّف معها السياسيون من كلّ الطوائف ببراغماتية عالية، وإلى زمن قريب، باعتبار أنّها أمر واقع. لكنّ تأسيس ميليشيا سنّية ولو من أجل مقاومة إسرائيل له تداعيات أخطر بكثير، و”الجماعة” أدرى الناس بأسباب ذلك وبآثاره السياسية، ولا سيما لدى الطوائف المسيحية. باختصار، هناك اقتناع سائد بأنّ هناك ميليشيا لا تهدّد الكيان وتتعايش معه، وأخرى تزلزله لو انتشرت، لأنّ ذلك من طبيعة الوجود السُّنّي وخصوصياته وامتداداته الخارجية، سواء كان ذلك صحيحاً أم سقيماً. ولا بدّ من التعامل معه ببالغ الجدّية والاحتياط. أمّا التناقضات المُثارة، فهي أنّ الجماعة والحزب كانا على طرفَي نقيض بشأن الحرب في سوريا. وهذه الأزمة لم تجد حلّاً بعد. وليست ثمّة مراجعات ولا تراجعات. فكيف التوفيق بين سوريا وفلسطين؟ هذا هو جوهر قلق الوجدان السُّنّي في لبنان ممّن ينتقدون حلف الجماعة والحزب. لكنّ الجماعة لم تقدّم لجمهور السُّنّة في لبنان أيّ طرح واضح، ما عدا بعض المواقف المتفرّقة دون خيط ناظم.
إقرأ أيضاً: ما يقول السّيّد وما يستطيع أن يفعل
ما هو المطلوب؟
يقع العبء بالدرجة الأولى على مقام الإفتاء، ليس لاجتراح الأعاجيب، بل لإدارة الحوار داخل الساحة السُّنّية. عمامة دار الفتوى وكلّ عمائم المشايخ والعلماء لطالما كانت وستبقى عمائم حفظ الكرامات. هي عمائم الوحدة ووأد الفتنة لا إشعالها. هي العمائم التي نستظلّ بها خلال المحن، فلا شطط ولا انحراف بل ثوابت تحفظ هذا المجتمع. المطلوب من هذه العمائم، وفي مقدّمها عمامة المفتي، إدارة الخلاف الناشئ حتى لا يتحوّل إلى فتنة داخلية. فليس صحيحاً أنّ كلّ السُّنّة ضدّ حركة حماس والجماعة، ولا العكس كذلك. ولن يتورّط السُّنّة في مناصرة إسرائيل، ولا يتعاطفون معها بأيّ شكل، حتى الذين ينتقدون حركة حماس أشدّ الانتقاد. والمشكلة بخلاف ما يزعم البعض ليست في نصرة غزة أو التخلّي عنها، بل هي في مكان سياسي آخر لا دخل له بقعقعة السلاح هنا وفي جنوب فلسطين.
أمّا التعرّض للموقع على طريقة “الأميين” في التاريخ فله جواب آخر…