أعلنت الولايات المتحدة الأميركية قبل أيام، وبعد سبع سنوات على آخر ظهور لروجا إغناتوفا، أو “ملكة العملات المشفّرة”، في العالم، عن مكافأة قيمتها خمسة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تُفضي إلى إلقاء القبض عليها. فمن هي روجا؟ ولماذا تسعى خلفها أميركا؟
“نصّابة”، “ملكة العملات المشفّرة”، “شاغلة العالم”، “صاحبة أكبر عملية سرقة في التاريخ”، و”صاحبة أكبر عملية احتيال ونصب في التاريخ”. من يقرأ ما سبق يظنّ أنّنا نتحدّث عن منظمة إرهابية، أو عن عصابة دولية، أو عن مجموعة من الرجال كوّنوا عصبةً للسرقة والاحتيال. لكنّ المعنيّ بالألقاب السابقة ليس أيّاً ممّا سبق. المقصود أو المقصودة هي امرأة. نعم امرأة، ودكتورة أيضاً وليست أيّ امرأة. سرقت 4 مليارات دولار ونصف مليار في عام 2017. الذين سرقت تلك المرأة أموالهم ليسوا محصورين في نطاق جغرافي محدّد، بل هم منتشرون في طول الأرض وعرضها وموزّعون على بلدان العالم كافّة.
هي روجا إغناتوفا التي وُلدت في الثلاثين من أيار من عام 1980. تحمل الجنسيّتين البلغارية والألمانية، ولا شيء في صعودها يشير إلى أنّ أجهزة الأمن في العالم ستتعقّبها، وتجعل العثور عليها مهمّتها شبه المستحيلة.
روجا إغناتوفا التي وُلدت في الثلاثين من أيار من عام 1980. تحمل الجنسيّتين البلغارية والألمانية، ولا شيء في صعودها يشير إلى أنّ أجهزة الأمن في العالم ستتعقّبها
حازت إغناتوفا لقبَي “النصّابة” و”ملكة العملات المشفّرة” إلى جانب لقبها الأكاديمي، إذ أصبحت أستاذة جامعية بعد حصولها على دكتوراه في القانون الدولي الخاصّ خلال شروعها في سلب أموال المستثمرين، ثمّ تزوّجت بالمحامي الألماني بيورن شتريل، وأنجبت منه ابنة في عام 2016.
أثر بعد عين
روجا إغناتوفا متّهمة بالاحتيال على آلاف المستثمرين وملايين الناس بمليارات الدولارات من خلال الترويج لعملة OneCoin الرقمية. هي اليوم واحدة من أهمّ 10 هاربين مطلوبين لدى مكتب التحقيقات الفدرالي. صدرت أوّل مذكّرة اعتقال فدرالية سرّية بحقّها في تشرين الأول 2017، لكنّ الخبر تسرّب إليها من داخل مقرّ الاجتماع الأمنيّ الدولي الذي عُقد لبحث قضيّتها في بلغاريا. كانت يومها قاب قوسين أو أدنى من السجن، لكنّها أفلتت من أيدي متعقّبيها في اليونان وفي صوفيا تحديداً، فسارعت إلى الانتقال منها سريعاً إلى العاصمة أثينا، ومن يومها لم يظهر لها أثر.
السلطات البلغارية لم تُجب إلى الآن عمّا إذا تمّ تسريب الخبر إليها من طرفها. بعد سبع سنوات على اختفائها، ألمحت هيئة الإذاعة البريطانية “BBC” قبل شهر إلى مقتلها بطريقة وحشية في صيغة سؤال لا يزال بلا إجابة حتى اليوم. وسائل إعلام أخرى تحدّثت نقلاً عن مكتب التحقيقات الفدرالي عن إجرائها عمليات تجميل غيّرت مظهرها الخارجي تماماً حتى لا يعرفها أحد. وأضافت نقلاً عن المكتب أنّها تسافر وتتنقّل مع حرّاس مسلّحين أو ربّما شركاء.
هي متّهمة بأكبر عملية احتيال ضريبي في ألمانيا. يقال إنّها تمكّنت من جمع 88 مليون يورو فيها وحدها. أيضاً تشتبه جهات أمنية أميركية في نقلها أموالاً لمجموعات إرهابية.
روجا إغناتوفا متّهمة بالاحتيال على آلاف المستثمرين وملايين الناس بمليارات الدولارات من خلال الترويج لعملة OneCoin الرقمية
الفرار إلى مجهول
عملت روجا في مجال التمويل قبل أن تطلق العملة المشفّرة OneCoin في عام 2014، وتحتال على آلاف المستثمرين وملايين الناس من الصين شرقاً إلى أميركا غرباً مروراً بالشرق الأوسط وأوروبا، ثمّ اختفى أثرها وأثر 4.5 مليارات دولار أخذتها من الناس في العالم، من خلال عملتها المشفّرة المزيّفة.
معظم الأفراد الذين ساعدوا إغناتوفا اختفوا أيضاً، ولم يتمّ إلقاء القبض إلا على عدد قليل منهم. أبرزهم الرئيسة السابقة للشؤون القانونية والامتثال للعملة المشفّرة الزائفة OneCoin، إيرينا ديلكينسكا، وكارل سيباستيان غرينوود، المؤسّس المشارك والمروّج الرئيسي لـOneCoin.
وOneCoin من أكبر مخطّطات الاحتيال في التاريخ، حسب السفير الأميركي في بلغاريا كينيث ميرتن. تدير هذا المخطّط شركات خارجية مثل OneCoin Ltd، ومقرّها بلغاريا ومسجّلة في دبي. تمكّنت إغناتوفا عبر عملتها الرقمية المزيّفة هذه، التي لا وجود لها أصلاً، من إقناع ملايين الأشخاص في العالم بالاستثمار فيها، لقاء عوائد ضخمة تتجاوز تلك التي حصل عليها المستثمرون في عملة “بيتكوين” أوّل استحداثها.
معظم الأفراد الذين ساعدوا إغناتوفا اختفوا أيضاً، ولم يتمّ إلقاء القبض إلا على عدد قليل منهم
رولز رويس ويخت فاخر ومساواة جندريّة
عاشت روجا حياة فاخرةً وتنقّلت بين العديد من البلدان. وبفضل عمليات الاحتيال التي قامت بها تمكّنت من التخصّص في القانون الدولي. نقل مقرّبون منها لصحف ومواقع عالمية أنّها كانت مقبلةً على الحياة وعاشتها ببذخ على نفسها والمحيطين بها. لديها العديد من الفيلات الباهظة الثمن ويخت فاخر وسيارة رولز رويس وكنوز فنّية لا تُقدّر بثمن. باختصار “لديها عُدّة النصب كاملةً”، كما يقول اللبنانيون في أمثلتهم.
النصب والاحتيال أشكال وألوان، فنون لا حصر لها ولا عدد. وفي عالمهما لا تمييز ولا عنصرية: المرأة مساوية للرجل، بل تبزّه وتتفوّق عليه. والدليل روجا إغناتوفا. بعدها لم يعد النصب والاحتيال مذكّرين. للنساء فيهما حصّة، وليست أيّ حصة بل حصة وازنة. صفة “نصّاب” يجوز تأنيثها وتعميمها والحذر منها منذ روجا.
إقرأ أيضاً: التّاريخ يعيد نفسه… والجغرافيا تتغيّر
اللافت للانتباه والداعي إلى الحذر منذ روجا إغناتوفا، في عالمنا المعاصر أو في عالم روجا ومن/ ما بعدها، كما في المقبل من الأيام، أنّ النصب والاحتيال لم يعودا حكراً على الرجال. لم تعد النساء حضناً دافئاً وآمناً. لم يعدن حناناً وعاطفةً وأخوّةً وأمومةً وبنوّةً. لم يعدن مضطهدات ومهمّشات ومعنَّفات فحسب، وإن استمرّ اضطهادهنّ وتعنيفهنّ وتهميشهنّ في أماكن كثيرة في هذا العالم. لم تعد المساواة والعدالة واللاعنف شغلهنّ الشاغل. الاتّحادات والمنظّمات النسائية لم تعد ملعبهنّ أو ملعب الطامحات منهنّ نحو الأفضل، ولا الفراش. عالم المال والأعمال والعملات صار من أماكنهنّ. لم يذكر تقرير واحد عن إغناتوفا عدد الرجال الذين نصبت واحتالت عليهم. لم يأتِ أحد على ذكر نسبتهم أو حصّتهم من المبلغ المنصوب أو المسروق. لكنّ المؤكّد أنّهم كثر، وربّما الغالبية الغالبة. ومن المؤكّد أيضاً أنّ الرقم الذي استحوذت عليه يفوق بكثير أرقام الجمعيات المطالبة بالمساواة بين المرأة والرجل، منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا!
لمتابعة الكاتب على X: