اخترق أحمد ماطر الفنّان التشكيلي السعودي المتعدّد الوسائط الذي مُنِحَ أخيراً وسام الآداب والفنون الفرنسي برتبة فارس، أسواق الفنّ والمتاحف العالمية وأنظمتها وأجنداتها المُحكمة، من خلال مفهومه الخاص والاستثنائي للرسم والفوتوغرافيا والتوثيق والنحت وأفلام الفيديو والتجهيز الفنّي. انطلق إلى العالميّة من بيئته في منطقة عسير ومجتمعه السعودي، وخصوصاً الريفي الذي يخلص له ولا يزال يستلهم من غناه، ومن ألم الانسان الداخلي الذي يتناوله في أعماله، دامجاً بين المكوّنات العلمية والمكوّنات الفنّية.
من الصعب تأطير وتصنيف أعمال ماطر التي يمكن وصفها بالاستثنائية، لأنّه صنع مادّته الفنّية بين المرئي وغير المرئي أو المخفيّ، بين الواقع والحقيقة، بين الضوء والعتمة، مستلهماً من الطبيعة والطبّ والتشريح وصور الأشعّة والأدب، وبانياً من كلّ ذلك مادّة خصبة لخياله الجامح والخصب.
بهذا المعنى نقل ماطر الفنّ التشكيلي إلى التجريب العلمي الفنّي، ومن النخبوية إلى الناس ويوميّاتهم وتحوّلاتهم ثمّ إلى مرافقتهم لتخيّل المستقبل في أعماله الأخيرة التي توثّق تحوّلات المملكة العربية السعودية المعمارية والاجتماعية والثقافية.
يصرّ على محلّيّته وأرضه ورماله الذهبية، ويؤمن بالتغيير من خلال الفنّ، ويتّبع مفهوم الفنّ الاجتماعي الذي شاع في ستّينيات القرن العشرين في ألمانيا. ويذكر دائماً أنّه أدرك، وهو على مقاعد دراسة الطبّ في جامعة الملك خالد في أبها، أنّ “الفنّ طريقي، وهو من العلوم الثقافية الإنسانية التي قد تغيّر مساهمتها الاجتماعية الكثير من حضارتنا… الفنّ هو كلّ الإجابات غير المتوقّعة”. ويعتبر أحمد ماطر أنّ “كلّ عمل من أعماله يُقدّم حكايته بسهولة وبطريقة مباشرة”.
يمتلك ماطر أسلوباً فنّياً يجمع بين التقنيات القائمة على البحث للحفاظ على السرديّات المنسيّة من الدين والبيئات الحضرية والذكريات المجمّعة لرسم ماضي المملكة وحاضرها ومستقبلها، والتأمّل في القضايا المطروحة كونيّاً التي لها علاقة بالتحديث والتقليد والإيمان والعولمة.
نشأ أحمد ماطر متأثّراً برسوم والدته للنقوش والزخارف في المنازل العسيرية الشعبية القديمة
الطبّ مفتاح إعادة التكوين
درس أحمد ماطر الطبّ، ثمّ عمل في مستشفيات أبها، متّخذاً من عالم الطبّ أوّل محترفاته الفنّية، فنقل صور الأشعّة (X-RAY) من المختبر إلى صالات العرض، محقّقاً نجاحاً لافتاً في الأوساط الفنّية. فهو يرى أنّ “فيلم الأشعّة يعبُر من كونه موقعاً تشخيصياً محدّداً لإنسان محدّد، إلى كونه موقعاً تشخيصياً أوسع للحياة”. وبخلاف مفهومنا المحدّد عن الطبّ وبعده عن الفنّ، يعتبر ماطر أنّ “الطب علم عظيم…. كنت أعيش حياة مزدوجة. حياة فيها هذه المفارقة. وليس مجرّد علم في البحث، ولا هو علم للخيال، بل فيه الاثنان”.
ألوان الأمّ
نشأ ماطر متأثّراً برسوم والدته للنقوش والزخارف في المنازل العسيرية الشعبية القديمة. “تعلّمت من أمّي أوّل نظرة إلى الألوان، وأدركت التكوين والتضادّ، التناغم اللوني وتضادّه، والتناسب… أمّي هي ملهمتي الأولى”. فقدَّم أعماله المستوحاة من مزيج الموروث الشعبي والفنّ المعاصر، ثمّ طوّر أسلوبه وأدواته لتكون فريدة ومميّزة واستثنائية. وهو يردّد دائماً أنّ “الريف السعودي حيث ترعرع أثّر في أعماقه ويرافقه في إبداعاته، كما أثّر فيه الطبّ”.
جوائز وتقدير دوليّ
حصل على جوائز كثيرة، منها: جائزة “الإبداع الثقافي” من مبادرة تكريم في الكويت عام 2018، وجائزة التّميّز الإبداعي. واختير عام 2009 في قائمة مجموعة “بيزنس” العربية كأبرز الشّخصيّات العربية المؤثّرة في العالم. كما اختير عام 2016 لرسم لوحة “طريق الحرير” ليُهديها وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان آل سعود للرئيس الصيني، لتُجسّد عمق علاقة المملكة بالصين.
حظيت أعماله بتقدير دوليّ، وعُرضت في كثير من المؤسّسات الفنّية المحورية في العالم، من بينها المتحف البريطاني و”فيكتوريا أند ألبرت”، وبينالي البندقية في إيطاليا، ومتاحف بروكلين وغوغنهايم و”نيو ميوزييم” في نيويورك، ومتحف بومبيدو في باريس.
هو أوّل فنّانٍ سعودي يقيم معرضاً منفرداً في الولايات المتحدة بعنوان “مدن رمزية” في مؤسّسة “سميثسونيان” البحثية في واشنطن
وهو أوّل فنّانٍ سعودي يقيم معرضاً منفرداً في الولايات المتحدة بعنوان “مدن رمزية” في مؤسّسة “سميثسونيان” البحثية في واشنطن. وتناول المعرض فكرة المدينة السعودية المعاصرة مستوحياً حكايات تاريخية وحكايات متخيّلة تناولت التحوّلات التي عاشتها المملكة منذ أوائل القرن العشرين ومدى تأثير هذه التغيّرات في الحياة في المملكة، مستخدماً التصوير الفوتوغرافي. المعرض كان يذهب في منحى التساؤل عن تلك الحياة المقبلة من مدن جديدة أو من معالم برزت لسنوات في حيوات السعوديين وتفاصيلها.
رحلات مكّة
في متحف بروكلين قدّم معرضاً لافتاً بعنوان “رحلات مكة” عبر نظرة متمايزة للتغيّرات المتعاقبة في مدينة مكّة المكرّمة سجّلت معالم الزمان والمكان، وكانت شاهد عيان على أعمال الهدم والبناء الحديث في المدينة المقدّسة. قلّص المعرض المسافة الشاسعة بين المكان كقبلة أزلية وبين أدوات العصر التي تقتحمه بمقترحات العمران الحديث والتطوّر المتسارع. وفيه طرح أحمد ماطر استفساراته عن واقع الإنسان في هذا المكان، سواء المقيم أو العامل في البنايات الشاهقة والآلات الضخمة والمنخرط في ماكينة يومية من العمل والحديد والخرسانة.
ولماطر من المؤلّفات “عسير من السماء”، و”مجسّمات القرن العشرين وتاريخ الفضاء العام”، و”صحراء فاران: التغيّرات الحضريّة في العمارة الإسلامية”. وفي 2017 عُيّن كأوّل رئيس تنفيذي لمعهد مسك للفنون الذي أُنشِئَ تحت مظلّة مؤسّسة وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان “مسك الخيرية”.
إسهامات استثنائيّة
لكلّ ما تقدّم، استّحق ماطر الفنّان الشابّ والمثقّف والاستثنائي الفوز بأحد أرفع الأوسمة الفرنسية التي تُمنح للأشخاص الذين قدّموا مساهمات كبيرة في مجالات الفنّ والأدب والتاريخ. وقد مُنح وسام الفنون والآداب الفرنسي الذي منح للمرّة الأولى عام 1957، وحصل عليه أبرز أدباء وفنّاني العالم، من بينهم الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي، والروائي البرازيلي باولو كويلو، والسينمائي الأميركي كيفن كوستنر، وجورج كلوني، ومن بينهم مبدعون عرب: الفنّانة اللبنانية فيروز، والروائي المصري نجيب محفوظ، واليمني علي المقري، والسوداني عبد العزيز بركة.
يعتبر أحمد ماطر المولود في تبوك في عام 1979 والذي كبر في مدينة أبها “واحداً من أبرز الفنّانين المعاصرين السعوديين في العالم
مُنح ماطر الوسام “لإسهاماته الاستثنائية في عالم الفنّ، وتأثيره العميق على المشهد الثقافي السعودي والعالمي، ودوره في تعزيز العلاقات الثقافية السعودية – الفرنسية، من خلال الفنون”.
“سجلّات أحمد ماطر” في لندن
تحتفي العاصمة البريطانية بأعمال ماطر المؤثّرة والفريدة في معرض استعاديّ ضخم لمسيرته الفنّية، بين 17 تموز و22 آب في المقرّ الرئيسي والتاريخي لدار “كريستيز” في لندن.
يعتبر أحمد ماطر المولود في تبوك (شمال السعودية) في عام 1979 والذي كبر في مدينة أبها (جنوب المملكة) “واحداً من أبرز الفنّانين المعاصرين السعوديين في العالم والأكثر تأثيراً في المشهد الفنّي في الشرق الأوسط والعالم”، كما قال رئيس مجلس إدارة دار “كريستيز” رضا مومني لـ “أساس”، مضيفاً: “هذا المعرض الاستعادي الأوّل في منتصف حياة ماطر المهنية، وهو يعدّ من الأصوات الثقافية الرائدة في الشرق الأوسط”. وأفاد بأنّ “رحلة ماطر الآسرة تدعونا إلى إعادة التفكير في البيئات الحضرية والطبيعية، واكتشاف التواريخ المخفيّة، وتصوّر المستقبل المحتمل، والتفكير في المعتقدات العميقة”.
إقرأيضاً: أحمد علي الزين لـ”جامعة الكبار”: أبي علّمني الحياة.. لا الدين
“سجلّات أحمد ماطر” يقدّم الأعمال الأساسية التي حدّدت مسيرته وتطوّره الفنّي، بدءاً من اللوحات التجريدية حتى سلسلة “Illumination” الشهيرة ومشروع صحراء فاران الشهير. وستتاح لزوّار المعرض فرصة حصرية لمشاهدة أحدث تحفة لماطر، وهي “كتاب المغناطيسية” الذي كُشف عنه للمرّة الأولى في دار “كريستيز”.