للوھلة الأولى قد تعتقد أنّ تصریحات بعض أعضاء الكونغرس الأمیركي وبیانات عمدة نیویورك والشرطة صادرة عن وزارات الحكومات والأجھزة الأمنیّة العربیة التي تسارع إلى اتّھام “جھات خارجیة” بأنّھا تقف وراء الحركات الشعبیة والاعتصامات تمھیداً لقمع ھذه الاعتصامات ونعتھا بمحاولات تعبث بالأمن والاستقرار. وھذا ما حدث فعلاً، لكن في الولایات المتحدة، حین اقتحمت الشرطة حرم الجامعات التي شھدت موجة اعتصامات رفضاً لما یتعرّض له الفلسطینیون في غزة.
تحدّث عمدة نیویورك عن محاولات من أجل جعل الطلاب “رادیكالیین”، وھو لن یسمح بذلك. عضو مجلس الشیوخ توم كوتون وصف مخیّمات الطلاب “بغزّة” صغیرة، وھناك دعوات إلى ترحیل الطلاب الأجانب في حال مشاركتھم في الاعتصامات الطلابیة. وعلى عكس الاتّھامات تبیّن أنّ من قام بأعمال العنف بحقّ المعتصمین ھم من الخارج. صحیفة “نیویورك تایمز” نشرت تحقیقاً یوثّق بالفیدیوھات قیام مجموعات من خارج جامعة كالیفورنیا بالاعتداء على الطلاب أمام أعین شرطة الجامعة وشرطة الولایة.
الرأي العام الأميركي المنقسم
الاعتصامات والتحرّكات الطلابیة التي تشھدھا جامعات الولایات المتحدة. تعكس الانقسام الحاصل في الرأي العامّ الأمیركي ضدّ حرب تجري خارج الحدود الأمیركیة للمرّة الأولى منذ حرب فیتنام في الستّینيات. وما یمیّز اعتصامات الجامعات ھذه المرّة أنّ الولایات المتحدة لا تشارك بشكل مباشر من خلال قوات على الأرض. إنّما فقط من خلال دعم إسرائیل عسكریاً، مالیّاً ودبلوماسیاً، ولا توجد خدمة عسكریة إجباریة، إنّما شعور لدى الناشطین وحركات الیسار والتقدّمیة الأمیركیة بأنّ سیاسة الولایات المتحدة لا تراعي القیم الدیمقراطیة وتضرّ العالم.
الاعتصامات والتحرّكات الطلابیة التي تشھدھا جامعات الولایات المتحدة تعكس الانقسام الحاصل في الرأي العامّ الأمیركي ضدّ حرب تجري خارج الحدود
الطلّاب العرب ومناصرو القضیة قد یكونون لعبوا دوراً في نشر المظلومیة الفلسطینیة وتوعیة الرأي العامّ الغربي لمعاناة الفلسطینیین في ظلّ الاحتلال. لكنّ الأرض كانت خصبة للتحرّك ضدّ سیاسات الولایات المتحدة، وبدأت المؤشّرات في حملة “احتلّوا وول ستریت”.
ممّا لا شكّ فیه أنّ رفض الاحتلال الإسرائیلي والتعاطف مع الشعب الفلسطیني أخذا مكان حرب فیتنام. والفصل العنصري في جنوب إفریقیا وسائر القضایا التي كانت تتحلّق حولھا حركات الیسار في أوروبا والولایات المتحدة كالمناخ ومعاداة الرأسمالیة “المتوحّشة”.
الدعوات إلى مقاطعة إسرائیل ووقف الاستثمارات فیھا كانت قد انتشرت قبل عملیة “طوفان الأقصى” والحرب الإسرائیلیة على غزة. حجم تأثیر حركة الطلاب في الجامعات یبقى مرھوناً بقدرته على التأثیر على سیاسة الدولة وتغییر توجّھاتھا المحلّیة والدولیة.
الاعتصامات والانتخابات
تكتسب حركة الاعتصامات الطلابیة ھذا العام بعداً آخر. وھو الانتخابات الرئاسیة الأمیركیة في تشرين الثاني التي تجري وسط انقسام حادّ في صفوف الناخبین الأمیركیین. وفي أوج الاحتجاجات على حرب فیتنام وحركة الحقوق المدنیة، وأثناء انعقاد المؤتمر الحزبي الدیمقراطي عام 1968 لاختیار المرشّح. طوّق المحتجّون مكان انعقاد المؤتمر في شیكاغو. وحصلت مواجھات مع الشرطة تركت انطباعاً سیّئاً لدى الرأي العامّ الأمیركي الذي بمجمله یحبّذ الاستقرار والابتعاد عن العنف.
الاعتقاد السائد أنّ خسارة الدیمقراطي ھوبرت ھمفري وفوز نیكسون الجمھوري. كانا نتیجة غضب القاعدة الدیمقراطیة وتوجّس الناخب الأمیركي من أعمال العنف والانقسامات. الاعتصامات الطلابیة غیر شعبیة لدى الرأي العامّ بشكل عام. لكنّ لھا تأثیراً على تكوین الوعي السیاسي والشعبي على المدى الطویل، وتحدیداً لدى النخب. أمام الرئیس بایدن تحدٍّ كبیر إذا أراد الفوز في الانتخابات المقبلة، فعلیه أن یبذل جھداً أكبر لإعادة توحید القاعدة الدیمقراطیة التي تعاني من غضب الجناح اللیبرالي التقدّمي الرافض الذي قد یكلّفه الانتخابات في حال استمرّ في الموقف السلبي المقاطع لبایدن والذي برز في الانتخابات التمھیدیة.
تكتسب حركة الاعتصامات الطلابیة ھذا العام بعداً آخر، وھو الانتخابات الرئاسیة الأمیركیة في تشرين الثاني التي تجري وسط انقسام حادّ
اعتماد بایدن على كره الدیمقراطیین للرئیس السابق والمرشّح الحالي للجمھوریین قد لا یكون كافیاً. في الانتخابات السابقة استطاع بایدن أن یحفّز الدیمقراطیین ویجذب عدداً لا بأس به من الجمھوریین الرافضین لترامب بسبب شخصه المستفزّ. أمل بایدن بإعادة انتخابه یتوقّف على قدرته على جذب الناخبین ذاتھم والتحالف الذي نسجه من مختلف الأجنحة داخل الحزب الدیمقراطي والجمھوریین التقلیدیین الذین یعتقدون أنّ ترامب شوّه سمعة الحزب.
إقرأ أيضاً: أميركا تقتل “قِيَمها” بيدها
ستشكّل الانتخابات المقبلة استفتاء لمعرفة من ھي الكتلة الانتخابیة الكبرى: كارھو ترامب أم الغاضبون من بایدن؟
لمتابعة الكاتب على X: