لا شيء يستوقف في ردّ إيران على الضربة التي تلقّتها من إسرائيل في دمشق أكثر من الرسالة التي وجّهها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى واشنطن عبر السفير السويسري في طهران، ومفادها أنّ “على الولايات المتّحدة، كحليف لإسرائيل، أن تجيب” على أفعالها. تبدو الرسالة الإيرانية أقرب إلى الشكوى للأميركيين منها إلى تحميلهم المسؤولية.
يشكّل الهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق أقسى ضربة عسكرية إسرائيلية مباشرة لإيران منذ الثورة الخمينية عام 1979. وبات مسؤول فيلق القدس في سوريا ولبنان العميد محمد رضا زاهدي ونائبه العميد محمد هادي حاج رحيمي أعلى قائدين عسكريَّين إيرانيَّين تقتلهما إسرائيل في وضح النهار. بل وقتلت معهما طاقماً كاملاً من قيادة الفيلق.
في هذه الضربة ما يشير إلى أنّ إسرائيل تستهدف الوجود العسكري الإيراني في سوريا ولبنان بمختلف مستوياته القيادية والعملياتية وبنيته التكنولوجية. وربّما تكون تحضيراً لحرب شاملة محتملة مع الحزب، أخذاً في الاعتبار أنّ الساحة السورية شكّلت العمق العسكري والاستراتيجي للحزب في حرب تموز 2006. ومن هناك كان فيلق القدس يدير إعادة الإمداد بالصواريخ والذخيرة.
تقدّم بين واشنطن وطهران
لكنّ هذه الأجواء الساخنة مختلفة عمّا يجري بين واشنطن وطهران. ففي منتصف الشهر الماضي كشفت صحيفتا “نيويورك تايمز” و”فايننشيل تايمز” عن مباحثات سرّية غير مباشرة بين الأميركيين والإيرانيين استضافتها سلطنة عمان في كانون الثاني الماضي.
وقال الإيرانيون إنّ موضوعها الأساس كان رفع العقوبات. فيما قال الأميركيون إنّها تركّزت على وقف هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر.
لا شكّ أنّ الانتخابات الرئاسية الأميركية تجعل من الوقت عنصراً داهماً فالإيرانيون لا يريدون عودة ترامب
الظاهر من مجريات الأحداث أنّ المباحثات حقّقت شيئاً ملموساً. إذ كشفت “واشنطن تايمز” في 18 شباط الفائت أنّ إيران طلبت من ميليشياتها في المنطقة تفادي التعرّض للأميركيين.
في منتصف الشهر الماضي قرّرت إدارة بايدن تجديد الإعفاء من العقوبات الذي يسمح لإيران ببيع الكهرباء والغاز للعراق وسداد المستحقّات بالعملة الصعبة عبر طرف ثالث، وهو ما سيمكّن طهران من الحصول على نحو عشرة مليارات دولار تُضاف إلى المليارات الستّة التي كانت مجمّدة في كوريا الجنوبية ووافقت واشنطن على الإفراج عنها ونقلها إلى البنوك القطريّة، بموجب صفقة لتبادل الرهائن العام الماضي.
يمكن مقارنة الحال بين إيران وإسرائيل وأميركا أوّل من أمس بالحال عندما قتلت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب قائد فيلق القدس قاسم سليماني في بغداد قبل أربع سنوات. يومها طلب الرئيس الأميركي من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المشاركة في العملية فأدار ظهره. وهذا ما قال ترامب إنّه لن يغفره له. يحدث العكس هذه الأيام بين إدارة جو بايدن ونتنياهو. تذهب إسرائيل إلى ضربة بهذه الخطورة من دون واشنطن. بل ومن دون إعلامها مسبقاً كما جرت العادة في كل الضربات الكبيرة في الداخل السوري، فيسارع الأميركيون إلى إبلاغ طهران بعدم علمهم المسبق، بحسب ما كشف موقع “أكسيوس”.
إيران همّها التفاوض مع أميركا
لم تغيّر إيران ثوابت قراءتها الاستراتيجية للموقف في الإقليم منذ اندلاع الحرب في غزة. ومن المستبعد أن تغيّرها بعد الهجوم على قنصليّتها في دمشق. ما زال السياق الأساسي بالنسبة إلى طهران هو التفاوض مع واشنطن على إرساء وزنها ومساحة نفوذها في المنطقة من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن.
وأمّا غزة فتبقى ساحة امتدادٍ للنفوذ وورقة من الأوراق الاستراتيجية التي يمكن صرفها في الأيام الصعبة. لكنّها ليست جزءاً من البنيان العضوي للوجود الإيراني في شرق المتوسّط، أقلّه بسبب القيود الجغرافيّة لقطاع صغير ومعزول.
لم تغيّر إيران ثوابت قراءتها الاستراتيجية للموقف في الإقليم منذ اندلاع الحرب في غزة
لذلك يندرج تحريك الجبهات، من جنوب لبنان إلى البحر الأحمر وسوريا والعراق، تحت عنوانين:
الأوّل: يخصّ إسرائيل بالدرجة الأولى، وهو “المشاغلة”، ليكون لإيران كلمة في ما سينتهي إليه الوضع المستجدّ في غزة بعد انتهاء الحرب.
الثاني: يخصّ الأميركيين، وهو يتعلّق بالتفاوض المستمرّ بأشكال متعدّدة منذ بداية عهد بايدن للتوصّل إلى صفقة تشمل الملفّ النووي ورفع العقوبات وحدود نفوذ الميليشيات في العراق ولبنان وسوريا واليمن.
لا شكّ أنّ الانتخابات الرئاسية الأميركية تجعل من الوقت عنصراً داهماً. فالإيرانيون لا يريدون عودة ترامب الذي مزّق الاتفاق النووي السابق، ولذلك هم معنيّون بالتوصّل إلى تسريع التفاوض مع إدارة بايدن استئنافاً لما كان يجري في السرّ والعلن قبل هجوم “حماس” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. لعلّهم يتوصّلون إلى صفقة تخفّف من مخاطر فوز ترامب وتدعم موقف بايدن انتخابياً.
في هذا السياق، تقرأ طهران الضربة الإسرائيلية كمحاولة لإحباط التفاوض بينها وبين واشنطن. وتدرك أنّ نتنياهو مستعدّ للذهاب أبعد من ذلك في إشعال حرب شاملة مع الحزب، ولا سبيل إلى لجمه إلا بالضغط الأميركي.
إقرأ أيضاً: إيران: وحدة الصفقة وتجزئة الساحات..
في البيت الأبيض إدارة تطوّر منظورها إلى الوجود الأميركي في الشرق الأوسط بشكل ملموس في السنوات الثلاث الماضية، من السعي إلى الانسحاب من المنطقة ومشاكلها وعقد صفقة مع إيران بأيّ ثمن، إلى إدراك أفضل لأهمّية الشراكة مع السعودية والإمارات ومصر، والعودة إلى “حلّ الدولتين”. لإرساء نظام إقليمي يغلّب الاستقرار والازدهار الاقتصادي ومكافحة التطرّف.
لكنّ الصعوبة تكمن في التوفيق بين ما يريده الأطراف الثلاثة الذين تريد واشنطن الانخراط معهم بدرجات متفاوتة: إيران الساعية إلى توسيع نفوذها مهما نزف الدم الفلسطيني، والسعودية التي تشترط حلّاً عادلاً للقضية الفلسطينية عماده إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وإسرائيل المحكومة بأكثر الحكومات تطرّفاً في تاريخها.
لكلّ ذلك، لن يكون كافياً لطهران أن تراهن على الحوار مع إدارة بايدن. بل إنّ سلوكها مع محيطها العربي سيحدّد مدى إمكانية إرساء نظام إقليمي متوازن ومستقرّ.
لمتابعة الكاتب على X: