عند عودتي من فرنسا في بداية القرن أخبرتني والدتي أنّ في الحَيّ أمّاً تحمل ولدها، وهو بلا رجلين ولا يدين. فيما بعد علمت أنّه ابن صديق وزميل سابق في الجامعة. التقينا وأخبرني قصّة ولده. قصّة لا يمكن ألّا يتفاعل معها الإنسان بتأثّر عميق. أبرز المواقف المؤثّرة هي اللحظة التي أخبر فيها الطبيب الوالد بحقيقة المولود الجديد. وسأله هل يريد الاحتفاظ به على أن يبقى الأمر سرّاً بينهما! لحظة بدهر. قال الوالد: “إنّها مشيئة الله. فهو الخالق. وما نحن سوى مشاركين في الخلق”. كلمات مؤمن. بيد أنّها الحقيقة الكونيّة التي يتنكّر لها اللادينيون ويكابر بوجهها العلمانيون. وأوّلهم الفرنسيون الذين شرّعوا الإجهاض وجعلوه مادّة في الدستور.
الإجهاض مادّة في الدستور الفرنسيّ
يوم الإثنين 4 آذار اجتمع البرلمان الفرنسيّ بمجلسَيه الجمعية الوطنيّة ومجلس الشيوخ. وصوّت بأغلبية 780 لقانون “الإنهاء الإرادي للحَمل” (Interruption Volontaire de Grossesse – IVG ) مقابل 72 صوتاً. والقانون يلزمه 3/5 من أعضاء البرلمان ليصبح مادّة في الدستور. وبذلك تكون فرنسا أوّل بلد في العالم يصبح الحقّ في الإجهاض مادّة في دستوره. علماً أنّ الإجهاض يمارَس في العديد من الدول. ونسبته في ازدياد مطّرد سنة بعد سنة.
جاء في نصّ القانون: “المرأة الحامل التي لا تريد استمرار الحمل، يمكنها الطلب من طبيب أو من قابلة قانونيّة وقف الحمل. ولا يُسمح القيام بهذه العملية إلا قبل الأسبوع الرابع عشر من الحمل”.
أبرز مناصري هذا القانون هم المدافعون عن حقوق المرأة. لذلك، وبعد التصويت عليه في قصر فرساي، صرخ هؤلاء ابتهاجاً بعدما تجمّعوا عند أقدام برج إيفل في العاصمة باريس. وقد أضيء للمناسبة وكُتبت عليه عبارة “جسدي خياري” بعدّة لغات.
اللافت في القانون هو اجتماع الأحزاب والتيارات السياسيّة الفرنسيّة عليه منذ البداية على الرغم من انقساماتهم وصراعاتهم في القضايا الداخلية والخارجية. ففي عام 2022 تقدّمت النائبة عن حزب “النهضة” الحاكم أورور برجيه بمشروع قانون لتشريع الإجهاض. كما تقدّمت بقانون مماثل ماتيلد بانو، رئيسة الكتلة البرلمانية لحزب “فرنسا الأبيّة” المعارض.
الإجهاض يمارَس في العديد من الدو ونسبته في ازدياد مطّرد سنة بعد سنة
وبالأمس صوّت على القانون نواب وشيوخ من كلّ الأحزاب والتيارات السياسيّة. فمن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار اتّفقت الأحزاب على هذا القانون. بمن فيها حزب الخضر والبيئيون الذين يناضلون للدفاع عن كلّ نبتة وشجرة وعن حياة كلّ حيوان في البحر وعلى اليابسة!
الرأي العلميّ
سألت طبيباً نسائياً متخصّصاً: ماذا يقول علم الطبّ في هذه المسألة؟ ومتى تتكوّن الحياة لدى الجنين؟
الجواب واضح. يقول العلم إنّ الحياة تتكوّن عند التلقيح. أي لحظة التقاء السائل المنويّ للذكر بالبُوَيضة لدى المرأة. حينذاك تصبح هناك حياة. وهذه الحياة سيتطوّر تكوينها في الأيام والأسابيع التي تلي. وفي الأسبوع الخامس يصبح لدى هذه الحياة قلب ينبض بالحياة. يمكن للوالدين سماع دقّاته بواسطة صورة الأشعّة. وفي الأسبوع الـ 12 يكتمل تكوين الجنين فيصبح له رأس ويدان ورجلان… ويصبح بإمكان الأهل معرفة جنسه من حيث هو ذكر أو أنثى.
وطرحت سؤالاً آخر على الطبيب المتخصّص: “لماذا تحديد 14 أسبوعاً كحدّ أقصى للإجهاض؟”. فأجابني بأنّ في هذه الفترة من الحمل تكون البنية العَظمية للجنين قد تكوّنت. أي تصبح للجنين عظام. بالتالي الإجهاض بعد تلك الفترة يمكن أن يعرّض الأمّ الحامل للخطر. وتابع الطبيب بأنّ عملية الإجهاض هي عبارة عن تقطيع الجنين لإزالته قطعاً من رحم الأمّ. في حال تمّت هذه العملية بعد الأسبوع الـ14 فمن المحتمل أن تبقى قطع من عظام الجنين في رحم الأمّ. كان شرحه تفصيليّاً بحيث أصابني بحزن عميق. وأكّد لي أنّها جريمة فظيعة.
أضاف الطبيب: ربّما هناك سبب آخر لتحديد الأسبوع الـ 14 للإجهاض يتعلّق بالنقص في عدد الأطبّاء في فرنسا وتعذّر حصول الحامِل على موعد مع طبيبها قبل شهرين أو ثلاثة من بداية الحمل.
رفض كنسيّ
رفضت الكنيسة الفرنسيّة بالطبع القانون. ففي وقت كان النواب والشيوخ الفرنسيون مجتمعين في قصر فرساي اجتمع أساقفة الكنيسة الفرنسيّة وأعلنوا رفضهم المطلق للقانون. ولأنّ الزمن زمن الصوم الكبير، دعوا إلى “الصوم والصلاة” للحفاظ على حياة البشر. كما دعوا إلى أن “يستعيد المواطنون الفرنسيون طعم الحياة”.
الموقف الكنسيّ في فرنسا يأتي منسجماً مع موقف الكنيسة الرافض لوضع حدّ للحياة بأيّ شكل من الأشكال وهو موقف تعبّر عنه الكنيسة برفضها عقوبة الإعدام
الفاتيكان أيضاً كان له موقف صارم. فقد أعلنت “الأكاديمية الحبريّة من أجل الحياة”. التي أسّسها البابا الراحل يوحنا بولس الثاني. أنّه “في زمن حقوق الإنسان الكونيّة، لا يمكن أن يكون هناك حقّ بإنهاء حياة”. كما ذكّرت الأكاديميّة بموقف البابا فرنسيس الذي أعلنه قبل أربع سنوات (في آذار 2020). وجاء فيه أنّ “الدفاع عن الحياة ليس عقيدة، إنّه واقع، واقع إنسانيّ يمسّ كلّ مسيحيّ، وتحديداً لأنّه مسيحيّ ولأنّه إنسان”.
لا يرتكز موقف الكنيسة فقط على التعاليم الدينيّة التي تقول بأنّ الله هو الخالق والحياة هِبة من الله ويجب الحفاظ عليها… إنّما يرتكز أيضاً على النظريّات العلميّة التي أسلفناها والتي تؤكّد أنّ الحياة تبدأ لحظة تلقيح بويضة المرأة. وبالتالي الإجهاض، في أيّ مرحلة من مراحل الحمل، هو جريمة. لذلك تؤكّد الأكاديمية الحبريّة أنّ “الإجهاض، الذي يبقى تعدّياً على الحياة في بداياتها، لا يمكن النظر إليه فقط من زاوية حقوق النساء”.
الموقف الكنسيّ في فرنسا هذا يأتي منسجماً مع موقف الكنيسة الرافض لوضع حدّ للحياة بأيّ شكل من الأشكال. وهو موقف تعبّر عنه الكنيسة برفضها عقوبة الإعدام، والانتحار والموت الرحيم.
إقرأ أيضاً: فرنسا: المزارعون ينتحرون… ويحاصرون الحكومة الجديدة
ما إن إعلنت رئيسة الجمعية الوطنيّة في فرنسا النتيجة حتى علا تصفيق النواب والشيوخ وكلّ الحاضرين في قاعة قصر فرساي. استمرّ لدقائق. وكأنّهم في حفل فنّيّ يطالبون بإعادة مشهد أو مقطع من أغنية. ترافق التصفيق مع بسمات وصرخات عبّرت عن حالة من النشوة. وكأنّه انتصار ضدّ عدوّ. وفي الواقع إنّه انتصار ضدّ جنين عاجز عن مقاومة فعل قتله حتى بصراخ.
بالمناسبة، ابن صديقي أصبح شابّاً. أنهى اختصاصه في الجامعة. وأسّس شركته الخاصّة. وهو اليوم يشكّل قيمة إنسانيّة وأخلاقية مُضافة ليس للمجتمع اللبنانيّ فحسب، إنّما للعالم أجمع.
لمتابعة الكاتب على X: