فيما يواصل سعر صرف الدولار ارتفاعه يومياً مقابل الليرة اللبنانية، مسجلاً أرقاماً قياسية تلامس أحياناً 2500 ليرة، أطلّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ليقول “إن المصارف غير مُجبرة على إعطاء أموال مودعيها بالدولار وإنما باللّيرة اللبنانية”، في ما بدا وكأنه خارطة طريق أو “تعليمة” مبطّنة للمصارف كي يتّبعوها.
وبحسب خبراء مصرفيين، فإنّ منح المودعين أموالهم بالليرة اللبنانية بدلاً من الدولار له فوائد كثيرة. ربما سيعود ببعض المنافع على الإقتصاد الوطني في ظلّ الأزمة المتدحرجة على وقع إهمال ولامبالاة منقطعَي النظير، تظهرهما السلطة السياسية من خلال إدارتها لملفّ تشكيل الحكومة الذي يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. وربما سيسمح هذا الإجراء للمصارف بالتقاط ما تيسّر من أنفاسها قليلاً بعد استنزاف يومي متواصل.
بعيداً عن التهم التي تُوجّه إلى المصارف بحبس ودائع الناس (جزء منها صحيح لكن له مبرّراته التقنية التي ترفض التهم بالجزاف والكلام الشعبوي)… يقول هؤلاء الخبراء إنّ إجبار الناس على سحب أموالها بالعملة الوطنية حصراً “سيخلق طلباً مصطنعاً على العملة الوطنية مقابل تراجع الطلب على الدولار”. كما أنه “سيحدّ من تهافت الناس على السحوبات بشكل كبير”، طالما أنها ستحصل على دولاراتها بالعملة الوطنية ضمن التسعيرة الرسمية (1507 ليرات لبنانية). وبالتالي سيخسر المودع، في حال قرّر قبض أمواله بالعملة الوطنية، والأموال التي لا يحتاجها، تحديداً، سيخسر ما يقارب ألف ليرة لبنانية في كلّ دولار واحد. وبالتالي، فإنّ الجملة الجوهرية اليتيمة التي أطلقها الحاكم خلال برنامج “صار الوقت” مع مارسيل غانم الشهر الماضي، تفترض أنّ ما هو بالدولار سيبقى بالدولار طالما أنّ المودع لن يجرؤ على طلبه أو سحبه، مستنداً في ذلك على المادّة السابعة من قانون النقد والتسليف التي تقول: “للأوراق النقدية التي تساوي قيمتها الخمسماية ليرة وما فوق قوة إبرائية غير محدودة في أراضي الجمهورية اللبنانية”.
المنطق في إجراء كهذا يفترض أيضاً إرساء المساواة بين الأطراف كلّها. فطالما أنّ المصارف تقبل بقبض العملة اللبنانية من المودعين لتسديد ديونهم بالدولار (قرض سكني، سيارة، بطاقة إئتمانية.. الخ) نتيجة “الليونة” التي أوصاهم الحاكم بها تجاه المدينين، فعلى المودعين، في المقابل، أن يوافقوا على قبض أموالهم من المصارف بالعملة اللبنانية، طالما أنهم يصرّون على سحبها. خصوصاً أنّ أغلبهم يحرص على زيارة المصرف بشكل أسبوعيّ بلا كلل، برغم الزحمة والتأفّف، بغية سحب الدولارات، ليس لحاجتهم إليها، وإنما بدافع الخوف والرغبة الجامحة في الادّخار المنزلي. كذلك بسبب السعي إلى تصريف الدولار بألفين وخمسمئة ليرة، للاستفادة من فارق سعر الصرف و”الربح”، مهما كان محدوداً.
أضف إلى ذلك أنّ هذا الإجراء سيخنق، مع الوقت، الطلب على الدولار إلى حدوده الدنيا. وسيرسم حدوداً لجشع شركات الصيرفة التي تأبى أيّ سلطة في دولة أو أيّ جهاز أمني فيها، أن تكافح تجاوزاتهم في لعبة اصطياد الناس بـ”طِعم” الخوف والربح الإضافي، بسبب قرب هؤلاء الصرافين من “حزب الله” بعد أن باتوا “قطاعه المصرفي” البديل منذ “طرد” الحزب من النظام المصرفي العالمي، واللبناني استطراداً.
وفي معرض دفاعه عن مظلوميتها، كشف سلامة أنّ المصارف اللبنانية باتت تشحن (تستورد) بين 300 و 400 مليون دولار شهرياً بالعملة الورقية (Bank Note) لتلبية طلبات مودعيها، منذراً بدخول لبنان مرحلة جديدة مختلفة عن النموذج القائم منذ ما يزيد على 20 سنة. وقد لمّح إلى إمكانية إعادة النظر بعدد المصارف (نحو 62 مصرفاً) الذي يرى الكثير من الخبراء أنّه رقم مبالغ فيه ضمن دولة بحجم لبنان. وهذا سيفتح الباب حكماً على عمليات دمج واسعة قد تخفّض عدد المصارف إلى أقلّ من النصف.
في إطلالته التلفزيونية، بدا سلامة مرتاحاً جداً كعادته. قال: “لن يصل أيّ مصرف محلّي إلى الإفلاس، وليس هناك من تعثّر لأنّ السيولة متوفّرة”، كاشفاً أنّ المصرف المركزي سيلبّي السيولة المطلوبة برغم الصعوبات وتراجع الودائع بنحو عشرة مليار. كما أكّد أن الأمور تغيّرت بعد إقفال المصارف بسبب الأزمة وتهافت الناس على السحوبات: “تحوّلنا من إقتصاد يعتمد على المصارف إلى إقتصاد الكاش” أو الـCash Economy. وهذا يعني أنّ الخوف قد تملّك الناس فأفقدها ثقتها بالمصارف لصالح الاحتفاظ بمالها في منازلها داخل الخزائن وجيوب المعاطف وتحت البطانيات والأسرّة.
لكن في المحصلة، إجراء دفع الايداعات بالعملة اللبنانية بدلاً من الدولار، إن حصل فعلاً، يخفي اعترافاً سيئاً مفاده أن لا عودة إلى سعر الصرف الرسمي أبداً (1507 ليرات لكل دولار). بل أكثر من ذلك، يفترض أن الهامش بين السّعر الرسمي وسعر “السوق السوداء” سيبقى كبيراً نسبياً حتى يقرّر المودعون ترك دولاراتهم داخل المصارف… ليبقى التحدّي الأساسي في كل ما سبق ذكره: ماذا لو أصرّ المودعون على قبض ودائعهم باللّيرة اللبنانية فوراً، وبرغم الخسائر؟