يا شعب الفايسبوك العظيم

مدة القراءة 5 د


صباح ومسا الخير أيها المدمنون والمدمنات على تعاطي  الفايسبوك، وكلّ مخدّرات التواصل والوصل حتّى تمصل المياه من عيونكم  وتصحون عمياناً عن الواقع. أيها المحدِّقون  ليل نهار في شاشة زرقاء حتى صار تحت  الجفون دوائر داكنة غامقة من شدّة البصبصة واللصلصة والتصبّب حتى  تصبّب العرق من ذهنكم. أيها المفكّرون أننا “نفكّر”، وتعلمون أنّ في رؤوسكم ثمّة دوائر مشوّشة تشوّشكم: وشّ على المخ ، وشّ على المخيخ،  وشّ على النخاع. يا مدمنين على جرعات “الستاتيوسات “إلى حقن “اللايكات” كأنها أبر نضربها بكبسة وتضربنا بكبسات وننتشي . هل حان وقت الدخول إلى عيادة الشمس كمركز لإعادة التأهيل من هذه النشوات المؤقتة التي تصيبنا بالخواء؟ 

إقرأ أيضاً: كفوف أيها المصفقون…

أنا المدمن أقول لنفسي: ربما حان وقت العودة إلى ما قبل الفايسبوك. أنا ضيّعت  طريق العودة. ساعدوني.

أعلم أن الفايسبوك واحد من التمارين اليومية لكسر الخجل، “واللي استحوا تويّتروا إلى تويترات”، والبعض “أنستغرموا”. ولكنّ الكلّ وقع في فخّ الإدمان اليومي ليل نهار، ونعيد التكرار. كلّنا نعمل عند رب عمل واحد يتحكّم بنا مع مليار موظف وأكثر في شركة الفايسبوك عند السيد مارك روكزبرغ. كلنا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن المؤمنين إلى الملحدين، كلنا نعمل ضمن النظام الداخلي للإمبريالي الأميركي روكزبرغ، إخوان .. دعونا نتذكّر قبل الفايسبوك كيف كنا، وكيف صرنا.

أعرف إحداهنّ تحبّني في الحياة ولا تتواصل معي على الفايس بوك ولا تمدّني بلايك واحد.. كزوجتي مثلاً

كانت الأمراض أخفّ وطأة قبل تفشّي الفايسبوك، الذي توهّمناه طبيباً، ومستشفى لأرواحنا، فصار سجناً ومرضاً ووباء يجتاحنا ونسمّيه سرّاً جائحة الفايسبوك.

كانت الثورات أجمل  قبل الفايسبوك. كانت أكثر سرّية وأكثر وضوحاً. وكان للهزيمة طعم.  والثورات المنقطعة كانت تنتصر بلا محطات التواصل الاجتماعي.

لقد وقعت بالواقع ثورات. وقعت قبل الثورة الرقمية. ثمّة ثورات قبل الفايسبوك. من ثورة السيد “سبارتاكوس” إلى ثورة أكتوبر. وحدث كلّ ذلك قبل مستر ومسز “ستاتيوس” وشقيقه “كومنت”. 

 كانت الصداقات أهمّ  وأعمق قبل الفايسبوك. والصديق الواحد كان يساوي خمسة آلاف صديق افتراضي، ومعهم 20 ألف متابع صديق يتابعونك، ويطاردونك، ويطعنوك عند أول زلّة لسان .. أعرف أحدهم مثلاً يكرهني في الحياة. ويطلب صداقتي على الفايسبوك!..وأعرف إحداهنّ تحبّني في الحياة ولا تتواصل معي على الفايس بوك ولا تمدّني بلايك واحد.. كزوجتي مثلاً.

 كانت حلقات النميمة أكثر حبكة وظرفاً قبل مجالس وغروبات الفايسبوك. كانت الثرثرة الواضحة العلنية الشفافة  المهضومة بلا عقد، ولا ربطات عنق، ولا شنق على الحبال الضوئية للفاسيبوك من جماعة معقّدين ومعقّدات قاعدين لك على كلّ مفرق. وكم كانت الطرائف أقلّ سماجة والظرفاء أقل عدداً. 

كانت العلاقة مع الزمن الواقعي ثروة. كان الوقت الثريّ يتضاعف في الجلسات الواقعية. وكنّا أغنى في زمننا قبل ثروات وأثرياء لايكات الفايسبوك والقلوب الذهبية المنشورة على حبل غسيل أزرق يشرشر منها اللاشيء.

كانت الجريدة قبل الفايسبوك نفلفشها بأيدينا. تمنحنا لذّة اللمس للورق، ولذّة تنفس الحبر المخفيّ. ولكن الفايس بوك هو من يجعلنا جريدته، ويفلفشنا من صفحاتنا ويبحبش فيما نكتب ونقرأ. كنا نتلصص على الحكايات. صار الفايس بوك يتلصلص على كلّ شاردة وواردة، وينقّب في صورنا، ونتوهّم أننا نستعرض أنفسنا، وهو يضعنا على بوديوم الفراغ نتمشى وننتشر كالفراغ، فراغ الروح.

كان كلّ شيء طبيعياً مية بالمية. الحبّ أرقّ. الشعر أنقى. العلم بالشيء أعمق. القراءة والمشاهدة. حتى الطقس قبل الفايس بوك،  كانت طبيعته طبيعياً يعني  ماشي حاله، يعني بالشتاء برد وزمهرير وبالصيف شوب وحرّ. ولكن مع وجود مذيعات الطقس، ومع اختراع الفايسبوك مع مسيو ومدام “كومنت” ومدمويل “ستاتيوس”. خرب الطقس وصرنا نسمع هذا العويل: “معقول الصيف شو شووووب يلعن أبوك ياصيف.. رجعوا لنا البرد”. وحين يهلّ ويهطل الشتاء، تنهمر اللعنات: “وين زمن الصيف  الجميل والنسيم العليل”.

من ينقذنا غداً نحن المدمنين اللبنانيين المفلسين المنهارين غداً، حين ينقطع المازوت نهائياً، وينقطع الموتير وتنقطع الكهرباء وطبعاً عندها سينقطع الإنترنت بكلّ جرعاته، وتختفي حشيشة اللايك وكوكايين الورود الافتراضية، واختفاء هيروين الأثير الافتراضي، لا إنترنت، لا فايسبوك. سنجد شعباً مدمناً، سيبدأ بالهرش والحكّ والحكحكة حتّى يفقد عقله، ويبدأ بالتسوّل والسرقة من العالم ليؤمن جرعة ضوء أزرق لشرايينه. لوطن كان واقعياً صار افتراضياَ. يا للنهاية البائسة

قبل ولادة نشرات أخبار الطقس، وقبل مذيعات ومذيعي المناخ، كانت العواصف تمرّ بنا خجولة، والثلوج أنعم. والبرد أدفى، شو كانت حلوة الطبيعة بلا تلفزيون وبلا فيزون وقبل وصول وادي السيليكون .

كانت الإشاعات قبل الفايس بوك، تمشي ببطء، وقد لا تصل إلى الجريدة أو الإذاعة أو التلفزيون، ولا تنتشر. مع الفايسبوك الإشاعة والأخبار المزيّفة أسرع من الصوت والضوء. ألسنة ممدودة تبخّ سمومها، وتنشر على كلّ الجسد اللبناني والعربي.   

من ينقذنا غداً نحن المدمنين اللبنانيين المفلسين المنهارين غداً، حين ينقطع المازوت نهائياً، وينقطع الموتير وتنقطع الكهرباء وطبعاً عندها سينقطع الإنترنت بكلّ جرعاته، وتختفي حشيشة اللايك وكوكايين الورود الافتراضية، واختفاء هيروين الأثير الافتراضي، لا إنترنت، لا فايسبوك. سنجد شعباً مدمناً، سيبدأ بالهرش والحكّ والحكحكة  حتّى يفقد عقله، ويبدأ بالتسوّل والسرقة من العالم ليؤمن جرعة ضوء أزرق لشرايينه. لوطن كان واقعياً صار افتراضياَ. يا للنهاية البائسة.

مواضيع ذات صلة

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…