صندوق النقد: افتراق الأجندات بين عون وحزب الله

مدة القراءة 6 د


لمن وجّه نائب الأمين العام لـ “حزب الله” كلامه المحدّد برفض “الخضوع” لصندوق النقد الدولي؟

ثمة إجابة وحيدة يحيل إليها توزيع القوى، والقرار الاقتصادي، داخل الحكومة: التيار العوني. يحيل ذلك إلى سؤال آخر عن سبب الحاجة إلى توجيه رسالة بهذا الوضوح، بما يوحي أنّ الرسالة الأولى التي أوصلها رئيس مجلس النواب نبيه بري قبل أسابيع لم تُفهم حدة لونها الأحمر كما يجب.

حدود موقف الثنائي الشيعي واضحة: الاستعانة التقنية بصندوق النقد، من دون الدخول معه في برنامج تمويلي يجعل لبنان خاضعاً لشروطه. الفرق بين الأمرين شاسع. المساعدة تقنياً تكاد لا تعني شيئاً.

قبل أشهر قليلة زارت بعثة من خبراء الصندوق لبنان بموجب الفقرة الرابعة من ميثاق الصندوق، وأصدرت تقريرها في تشرين الأول الماضي. من يريد نصائح الصندوق فليقرأها هناك في أكثر من ستين صفحة. أما البرنامج التمويلي فمسألة مختلفة، ترتّب على لبنان التزامات محدّدة، تُضَمَّن في برنامج “إصلاحي” واضح ببنوده وجدوله الزمني.

إقرأ أيضاً: لا مفرّ من “صندوق النقد” وتعويم الليرة

حين أطلق الرئيس بري تصريحه، تحرّك رئيس الحكومة في حدود ذلك التفويض. كان هناك من يريد أن يقنع نفسه بأن ليونة “حزب الله” كوّة قابلة للتوسّع، لتفتح الباب أمام ما هو أكثر.

جاءت بعثة الصندوق إلى لبنان، وبدا من اجتماعاتها أنّ في فم رئيس الحكومة حسان دياب والفريق الاقتصادي في الحكومة، ماءً كثيراً. جميعهم يريدون استكشاف إمكانية الدخول في برنامج تمويلي مع الصندوق، من دون أن يجرؤوا على قولها. كانوا ينتظرون من بعثة الصندوق أن تتبرّع بالإجابة على أسئلة ليس من الآمن طرحها، وذاك ما جعل الموقف اللبناني مربكاً وغير مفهوم. فبدت محادثات اليومين الأولين باردة وقليلة الثمار.

في الدائرة العونية المعنية بالشأن المالي، تفضيل واضح للدخول في برنامج تمويلي مع صندوق النقد الدولي، مع شيء من التحفظ في التعبير. شربل قرداحي، الذي ذكرت جريدة “الأخبار” أنه يمثّل التيار العوني في لجنة ثلاثية مع الثنائي الشيعي، نفى في مقابلة تلفزيونية افتراضات بوجود شروط سياسية لبرامج صندوق النقد الدولي في أيّ من البلدان. وخرجت أصوات نيابية عونية لم تظهر أيّ تحفظ على خيار البرنامج التمويلي.

غادرت بعثة صندوق النقد لبنان ببيان من فقرة واحدة، لم تفِد بشيء ذي معنى. بدا أنّ الكرة في ملعب الحكومة مجدداً، لتوضح ما تريده: ما خطتها؟ وما حدود المساعدة التقنية التي تريدها؟ وهل ستدخل في صلب الموضوع؛ البرنامج التمويلي، أم لا؟

إذ ذاك بدا أنّ “حزب الله” في حاجة إلى إعادة رسم خطّه الأحمر لمن أساء فهم رسائله. ولعل ذلك ما حدا الشيخ نعيم قاسم للخروج بتصريحه الرافض قطعاً لأي برنامج مع الصندوق.

تلك صورة موروثة من زمان الاشتراكية تُعطف على قوالب نمطية، تنسب إلى صندوق النقد والبنك الدوليين شتّى صنوف التشكيك بخلفيات سياسية تحكم أجنداتهما

وضعت تركيبة الحكومة العونيين و”حزب الله” على طرفي تقابل. كانت الائتلافات الأوسع تتيح مساحة أوسع للتعمية على اختلافات الأجندات. أما الحكومة الراهنة، فما من طرف ثالث فيها يمكن تحميله فاتورة الخيارات الاقتصادية، كما كان الحال حين انعقد مؤتمر “سيدر” مثلاً.

وفي اللحظة الحرجة، تظهّر اختلاف الأجندات. “حزب الله” بات يواجه تحديات محور بأكمله على مستوى الإقليم، وينشغل بمواجهة عقوبات أميركية لم يعرف مثلها في تاريخه. أما التيار العوني، فما من اختبار مرّ عليه في تاريخه أكبر من الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة. ليس في الحكومة من يقتسم المسؤولية ويلبس تهمة الفشل. في الحسابات التقنية البحتة، يدرك العونيون أنّ الإفلات غير ممكن من دون برنامج مع صندوق النقد الدولي، مهما كانت الأثمان الاجتماعية. أما “حزب الله”، ففضلاً عن توجسه من شروط سياسية خفيّة، قد لا تحتمل صورته لدى جمهوره أن توقع حكومة اللون الواحد على “الوصفة الجاهزة” لصندوق النقد ذات الصيت السيء.

ليس واضحاً أصل تعبير “الوصفة” عند الحديث عن نصائح صندوق النقد الدولي أو شروطه. لكنه تعبير يضمر إشارة سلبية إلى الطبيعة الجاهزة للعلاجات التي ينصح بها الصندوق، وربما لعدم صلاحيتها للبنان.

تلك صورة موروثة من زمان الاشتراكية تُعطف على قوالب نمطية، ، تنسب إلى صندوق النقد والبنك الدوليين شتّى صنوف التشكيك بخلفيات سياسية تحكم أجنداتهما.

في أوساط الاقتصاديين فهم مختلف لعمل الصندوق. فما يحكى عن “الوصفة الجاهزة” لا توافقه الوقائع من برامج التمويل المقدمة من الصندوق إلى دول كثيرة، من بينهما دول في المحيط القريب للبنان.

في الحالة المصرية، دخلت مصر في برنامج مع الصندوق وأنجزته وخرجت منه من دون أن تنفذ شيئاً من مشاريع الخصخصة، ومن دون أن تصرف موظفاً واحداً من القطاع العام الضخم والمترّهل

الصحيح أن ثمة مبادئ أساسية لا تخرج عنها نصائح الصندوق، منها الحفاظ على مستوى مستدام لعجوزات الميزانية والمديونية العامة وميزان المدفوعات، ومنها كفاءة سوق الصرف، وعدم وجود سعرين للصرف، وعدم استخدام احتياطيات البنك المركزي لاصطناع سعر مخالف لأساسيات السوق. ومنها أيضاً كفاءة نظام الدعومات الحكومية وشبكات الأمان الاجتماعية، بحيث يستبدل الدعم غير الموّجه، مثل دعم أسعار الوقود والكهرباء، بدعم نقدي يُقدّم مباشرة إلى الفئات الأكثر حاجة.

ومن منطلق وحدة الأساسيات، تتشابه النصائح، لكنها لا تتطابق. من اللافت مثلاً أنّه في الحالة اللبنانية لم يقدّم الصندوق نصيحة صريحة بتحرير سعر الليرة صرف على مدى السنوات الخمسة عشر الماضية، بل إنّ تقارير خبرائه كثيراً ما تضمنت إشارات إلى تقبل المبررات اللبنانية لسياسة سعر الصرف الثابت. وفي الحالة المصرية، دخلت مصر في برنامج مع الصندوق وأنجزته وخرجت منه من دون أن تنفذ شيئاً من مشاريع الخصخصة، ومن دون أن تصرف موظفاً واحداً من القطاع العام الضخم والمترّهل.

لا يحتمل لبنان ترف هذا النقاش. ثمة طرفان في الحكومة يتوزع بينهما الحكم والمسؤولية اليوم: العونيون والثنائي الشيعي. ولربما يحتاج الأمر إلى بعض التدقيق لمعرفة ما إذا كانت لدى حركة أمل الرغبة أو القدرة على مناقشة “حزب الله” في خطه الأحمر.

تراجع عدد الطبّاخين في حكومة حسّان دياب مقارنة بحكومات الوحدة الوطنية، لكنّه ما زال كبيراً إلى حدّ عدم الاتفاق على وصفة واحدة، فكيف إذا كانت “وصفة الصندوق”!

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…