“باللحم الحي نحاول مساعدة الأهالي. الأوضاع هنا تحت الصفر، تخيّلي أن لا طنجرة في البيوت”. لرئيسة جمعية “نور الحياة للمنكوبين”، سليمة صافي حرب، المعروفة لدى الأهالي بـ”أم محمد” الكلام.
مع غياب الإحصاءات الدقيقة لدى المعنيين عن نسب البطالة ومدخول الفرد تمتلك وحدها الإجابة عبر إحصائيات تقليدية أجرتها الجمعية في الحيّ. فالبطالة “تتجاوز الـ90 في المئة” والباقون يعملون في أشغال يومية كجمع الحديد والتصليح والحدادة وبيع الطيور، أو على البسطات المتنقلة.
أما مدخول الفرد الواحد “فلا يتجاوز 3 دولارات في اليوم، يقسمونها بين ألف ليرة لربطة الخبز، ألف ليرة للبطاطا، ألف ليرة للزيت الذي يبتاعونه عبر كأس أو عبوة بلاستيكية صغيرة، و500 لدواء الغسيل وهكذا”.
إقرأ أيضاً: “المنكوبين” (2): تشرّد بين ثلاث بلديات
“المرتاح على وضعه” معيشياً، بحسب إحصاءات أم محمد، يستطيع تأمين مدخولٍ يقارب 7 آلاف ليرة يومياً، أو 50 ألف ليرة في الأسبوع. مع وجود نسبة ضئيلة جداً تنتمي إلى المؤسسة العسكرية حيث يعيل العسكري الواحد أكثر من عائلة. وهناك فئة لا بأس بها دون أيّ مدخول، تعيش على الحصص الغذائية وعلى تلّقي الحسنة من أهل الخير الذين يتذكرونهم في المناسبات أو عندما يكون عليهم نذر ويريدون الوفاء به.
لا بصمات واضحة ولا حتى مخفيّة للدولة في حيّ المنكوبين، فقط دعواتٌ متكررة من الأهالي إلى الجمعيات التي اتخذت من الحي مقصداً للعمل الانساني. و”أم محمد” تأخذ على عاتقها منذ 12 سنة، عبر جمعيتها المتواضعة، وهي جمعية محلية تربوية، مهمة التنسيق بين أهالي المنكوبين والجمعيات الأخرى، بينها “الرباط الى إنقاذ الطفل” و “عكارنا”. وتتنوع النشاطات بين تربوية، وغذائية، وتأمين ملابس، وإنارة وترميم بعض سقوف المنازل المهددة بالسقوط على رؤوس أصحابها… وغيرها.
هذه المنطقة تتوالى عليها النكبات من داعش الذي كان أولى ضحاياه من شمال لبنان هم شبانٌ من حي المنكوبين استشهدوا في حادثة تلكلخ في سوريا
وعن فكرة الجمعية، تقول أم محمد باندفاعٍ قوي اتجاه المنطقة وأهلها: “العمل الاجتماعي في الدم، وأنا من المنطقة، وكان فائض المعاناة والتسرّب المدرسي دافعاً أساسياً لتأسيس الجمعية. كانت البداية معي ومع ابنتي زينب وابني عمر، كنّا نقوم كمتطوعين بتعليم الأطفال المتسرّبين من المدرسة لأسباب معيشية، مقابل أسعار رمزية، وحتى من دون مقابل لمن ليس بمقدوره تحمل أعباء هذا السعر الرمزي”.
نكمل جولتنا في الحي وكان النهار لا يزال في بدايته، نستغرب الحركة شبه المعدومة لا سيما للشباب، ليقول أحد أبناء الحي: “الشباب هنا يسهرون طوال الليل وينامون طوال النهار، بسبب النسبة المرتفعة للبطالة”.
وبالمصادفة نلتقي بشابين يستندان الى أحد جدران الحي المهترئة، حيث تتسرب مياه الصرف الصحي إلى جانبهما بشكل عشوائي، وتعطّر المكان بما لا تحمد عقباه من الروائح. نقترب منهما ونسألهما ما الذي يفعلانه وما إن كانا يعملان في وظيفة أم لا: يضحك الأول، ويجيب الثاني: “نحن من الشبان القلائل الذين اعتقدوا بأن المؤهلات العلمية ستساعدنا في إيجاد وظيفة، لكن هنا حُكم على شباب الحي بالبطالة وارتبط اسمهم بالعنف وأمور أبشع من أن تقال”. وهنا يستنفر الأول ويقول: “أيّ عمل قد أجده وأنا في كل مرّة يتم استدعائي للتحقيق بجرم المشاركة في أحداث طرابلس وحتى أني لا أملك السلاح”.
أحد الناشطين الإعلاميين في الحي يفسر انعدام الحركة الشبابية بسيناريو أخطر، ويصنّف شباب الحي بين “من هم في السجون، ومن مات في المعارك، ومن ابتُلي بتعاطي المخدرات”. ويقول سمير مهنّا: “هذه المنطقة تتوالى عليها النكبات من داعش الذي كان أولى ضحاياه من شمال لبنان هم شبانٌ من حي المنكوبين استشهدوا في حادثة تلكلخ في سوريا، إلى نكبة معارك طرابلس وجولات الموت والدمار بين جبل محسن والتبانة، إلى نكبة المخدرات ولعلها الأخطر والأشرس على أمن الحي وسلامة قاطنيه”.
نسأل عن مصادر المخدرات فيجيب أحد الشبان الجالسين، والذي أنهى دراسته الجامعية في العلوم منذ سنوات، ويرفض التعريف عن اسمه: “الممنوعات تُصنّع في المناطق المجاورة وتأتينا على عينك يا دولة”. نحاول استقصاء المزيد من المعلومات، لكن يقطع الشاب العاطل عن العمل رغم تحصيله العلمي العالي، دابر الحديث: “لا يريدون لأهالي المنطقة أن يكونوا واعين ومدركين لكل ما يحصل، يريدونهم وقوداً للحروب ما إن نادت المصالح السياسية”.
تعود إلى ذاكرتنا المخاوف التي تربّصت بزيارتنا حيّ المنكوبين، فكلّ من سألناه عن المنطقة وأبلغناه أننا سنزورها قريبًا كان يرتعب وينشد لنا ما طاب من أهازيج التحذير وأخذ الحيطة، إلى درجة حاول البعض أن ينصحنا بمرافقة أحد عناصر مخابرات الجيش اللبناني حرصاً على سلامتنا، لكننا رفضنا ذلك نظراً لطبيعة العلاقة غير الطيبة بين الأهالي والعسكر، والتي قد ترفع حواجز الصراحة بيننا وبين أهالي الحي.