“المنكوبين” (2): تشرّد بين ثلاث بلديات

مدة القراءة 4 د


تائهة هي عيون القاطنين في حيّ “المنكوبين” بين انتمائهم الصُوَري إلى سجلات نفوس مدينة طرابلس وبين معنيين لا يريدون الاعتراف بهم. أصيبت كلها بقصر الأمل، وتروي بين لفتةٍ وأخرى ألف حكاية خوف ويأس وتمرّد. فهم الذين هربوا من غضب الطبيعة وقعوا في غضب الحرمان، ومن لعنة النهر الكبير إلى لعنة الإهمال الأكبر.

“لا طبابة، لا مدرسة، لا مياه صالحة للشرب، لا كهرباء، لا طرقات، لا إنارة، لا صرف صحي…”، تلهث آمال قبل أن تكمل تعداد وجوه غياب الدولة عن المنطقة: “ولا حتى كنس وجمع للنفايات، وحدها جمعيات المجتمع المدني ترأف لحالنا وتشفق على عوزنا، وتسد جوعنا من وقتٍ لآخر”.

وعلى يمينها تكمل جارتها وفاء سرد المعاناة. منذ 7 أشهر لم يدفع زوجها إيجار المنزل، 300 ألف ليرة، منذ أن  ترك عمله كسائق كميون: “ولا نعرف متى نصبح بلا سقف يسترنا”. وتقول جارتها: “زوجي كان يعمل في محل تصليح للغسالات والبرادات، هو الآخر بلا عمل منذ اكثر من سنة، ولدينا 6 أولاد.. أخذ مكانه عمال سوريون، وربك وحده يعلم أين ستصل بنا الأيام”. أما الرابعة فتخبرنا عن زوجها الذي كان “عامل نظافة” في البلدية وتم نقله الى منطقة أخرى “لأنه كان يعمل من قلبه ووضعوا مكانه عمالاً لا يزورون الحي إلا في السنة مرة”.

يتعثّر أحد زملائنا فتقع قدماه داخل حفرةٍ كبيرة غمرتها المياه. أحمد، وهو أحد أبناء المنطقة الذي تطوع لمرافقتنا إلى الحي، يلعن البلدية المعنية، وينتقل الحديث عن نكبةٍ أخرى وهي الطرق وغياب الخدمات الأساسية.

كحال البداوي بخلت وادي النحلة بخلت بالإنماء على المنكوبين، على اعتبار أنّهم ليسوا من ناخبيها

نُكب المنكوبون مرّة جديدة عندما سُلِخوا عن النطاق البلدي لمدينة طرابلس، وتم ضمهم إلى بلدية البداوي عند استحداثها في أوائل الثمانينيّات. كانت الذريعة أن “المنكوبين” حيّ يقع في النطاق البلدي للبداوي، وتم تناسي أنهم من ناخبي طرابلس القديمة. وتوالى عدم اهتمام السلطات المحلية بالحيّ “نظراً لأن المنكوبين لا ينتخبون في بلدية البداوي” وصولاً إلى عملية الترقيع الأخرى التي لحقت الحيّ عبر ضمّه إلى بلدية وادي النحلة المستحدثة في العام 2014، والتي تم انتخاب رئيسها وأعضاءها الـ 12 في انتخابات 2016 البلدية.

وكحال البداوي، بخلت وادي النحلة بالإنماء على المنكوبين، على اعتبار أنّهم ليسوا من ناخبيها. وحتى زواريبها وأزقتها يقوم السكان بكنسها وفق مبدأ: “كل واحد ينضف قدام بيته”، على حد تعبير زوجة ابن محمود الحموي، التي رفضت ذكر اسمها. أما الأخير فيرى في سيناريو ضم المنكوبين إلى بلدية وادي النحلة “تنفيعة لزيادة مردود البلدية عبر تكبير نطاقها الجغرافي”، ويسأل: “جبل محسن على مرمى حجر من هنا وتابع لطرابلس ونحن الطرابلسيون رمونا في وادي النحلة”.

ينتفض رئيس بلدية وادي النحلة خالد الجزار عند السماع باسم حيّ “المنكوبين”.وهو الآخر يشعر بالمظلومية لضم المنكوبين إلى نطاقه البلدي: “هناك لعبة قديمة أدت لذلك، نحن حدودنا البداوي الشارع العام”. ويرفض الجزار ما سبق من كلام عن غياب الخدمات جملة وتفصيلًا. يعتبر أنّ بلديته تعمل “باللحم الحيّ في المنطقة بما تسمح به ميزانيتها المحدودة التي لا تتجاوز الـ120 مليون ليرة في السنة من كنس وجمع للنفايات إلى صرف صحي وتعبيد طرقات بمساعدة أهل الخير”. ويضيف: “كل ذلك وسط كوارث من الفوضى والعشوائية، فلا أحد يدفع الضرائب، وماذا باستطاعتي أن أفعل لهم، هل أشتري لهم بيوتاً جديدة أم أمنحهم رخص بناء مخالفة للقانون. يكفي أنني أُقبّل الأيادي واختلف مع المعنيين عندما أسمح لأحدهم بترميم سقف منزله المهدّد بالانهيار”.

وعند مواجهته بحال شبكة الصرف الصحي التي يتغنّى بها يقول الجزار: “الشبكة موجودة لكن عندما يتم تحميلها أكثر من قدرتها الاستيعابية بشكل فوضوي وعشوائي لا بد أن يكون الحال هكذا. فليحمدوا ربّهم على بلدية وادي النحلة التي تقوم بواجباتها رغم تحملها أعباء 10 آلاف نازح سوري في نطاقها البلدي و6 آلاف لبناني بين حيّ المنكوبين ووادي النحلة، ولينظروا إلى البلديات الكبرى التي تأكلها النفايات”، غامزاً من قناة بلديتَي المنية والضنية.

وعن طلب المساعدة من المعنيين، يقطع رئيس البلدية الحديث، ويقول إنّ هذه المواضيع تحتاج إلى “مقابلة مفصّلة”. ويختم: “لم نترك أحداً لم نطرق بابه، الدولة غائبة، والجمعيات مشكورة على مساهمتها الكبيرة، وزعماء طرابلس كلهم يساهمون، ما عدا المستقبل يساهم في الكلام لا أكثر”.

مواضيع ذات صلة

إسرائيل تضرب حيّ السّلّم للمرّة الأولى: هل تستعيده الدّولة؟

بقي حيّ السلّم على “العتبة”، كما وصفه عالم الاجتماع وضّاح شرارة ذات مرّة في كتابه “دولة حزب الله”. فلا هو خرج من مجتمع الأهل كليّاً…

أمن الحزب: حرب معلومات تُترجم باغتيالات (2/2)

لا يوجد رقم رسمي لمجموع شهداء الحزب في حرب تموز 2006، لكن بحسب إعلان نعي الشهداء بشكل متتالٍ فقد تجاوز عددهم 300 شهيد، واليوم بحسب…

أمن الحزب: ما هو الخرق الذي سهّل مقتل العاروري؟ (2/1)

سلسلة من الاغتيالات طالت قيادات من الحزب وحركة حماس منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) على وجه التحديد توّجت باغتيالين كبيرين. الأوّل اغتيال نائب رئيس…

النزوح السوريّ (3): النظام لا يريد أبناءه

12 سنة مرّت على وصول أوّل نازح سوري قادم من تلكلخ إلى عكار في لبنان. يومها اعتقدت الدولة اللبنانية أنّها أزمة أشهر، أو سنة كأبعد…