إغلاق إسرائيل لمنظّمات حقوقيّة يذكِّر بقصف برج الجلاء

مدة القراءة 6 د

ليست المرّة الأولى التي تقرّر فيها تل أبيب حظر مؤسّسات حقوقيّة تتبع للمجتمع المدني الفلسطيني، أو تتجسّس فيها على الفلسطينيين. ولم يكن مفاجئاً الكشف عن استخدام إسرائيل لبرنامج “بيغاسوس” للتجسّس الإلكتروني على هواتف موظفين في وزارة الخارجية الفلسطينية، وعلى ناشطين فلسطينيين يعملون في مؤسسات حقوقية وصمتها إسرائيل بالإرهاب وقرّر وزير جيشها بيني غانتس إغلاقها أخيراً، وخصوصاً بعد كل هذا التاريخ المثقل لإسرائيل بالتجسّس والمتابعة والرقابة على الفلسطينيين إلى حدّ إحصاء أنفاسهم أينما وُجِدوا.

ومن المعلوم أنّ أراضي الضفّة الغربية تخضع بكاملها لنظام مراقبة محكَم، عبر شبكة مغلقة من الكاميرات التي تغطّي جميع شوارعها الواصلة بين مدنها وقراها. وبحسب تقارير فإنّ إسرائيل تستخدم تكنولوجيا هواتف ذكية تُعرَف باسم الذئب الأزرق، تقوم بالتقاط صور الفلسطينيين عند نقاط المراقبة والتعرّف على هويّتهم باستخدام الذكاء الصناعي وربطه بقاعدة البيانات المتوافرة لديها أو ما عُرِف باسم “فيسبوك الفلسطينيين”، وبتطبيق يعطي الجنود إشارة إلى الشخص الواجب اعتقاله.

تبدو هذه التكتيكات جزءاً من حركة مستمرّة أوسع لنزع الشرعيّة عن المنظمات غير الحكومية الفلسطينية وإلغاء تمويلها وتخريبها بشكل دائم

وتُعدّ إسرائيل موطناً لعشرات الشركات المصنّعة لبرامج القرصنة والتجسّس، والتي تعمل في إطار قطاع صناعة التكنولوجيا الفائقة، الذي يُعدّ من الصناعات المهمّة في إسرائيل.

وأدانت الأمم المتحدة، في بيان لها، قرار الحاكم العسكري في الضفة الغربية بإغلاق ستّ منظّمات مدنية تقدِّم الخدمات للمجتمع المدني، ورأت أنّه يزيد من الانتقاص من الحيّزيْن المدني والإنساني.

والمؤسسات، التي شملها قرار الحظر، هي منظمة “الحقّ والضمير” والحركة العالميّة للدفاع عن الأطفال-فلسطين ومركز بيسان للتنمية والبحث واتّحاد لجان المرأة الفلسطينية واتّحاد لجان العمل الزراعي.

وادّعى مسؤول أمنيّ إسرائيلي أنّ التحقيق في نشاطات هذه المنظّمات أدّى إلى “ملف جيّد” من الأدلّة يربطها بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

ورأت صحيفة “نيويورك تايمز” أنّ إدراج الاحتلال الإسرائيلي ستّاً من أبرز المؤسسات الفلسطينية على لوائح “إرهابية”، تمّ من دون أدلّة كافية.

وأضافت أنّ تجريم المؤسسات الفلسطينية يهدف إلى إسكات المراقبة المستقلّة لانتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان التي تقف بين الضمّ الكامل للضفّة الغربية المحتلّة والمساءلة الدولية.

وتبدو هذه التكتيكات جزءاً من حركة مستمرّة أوسع لنزع الشرعيّة عن المنظمات غير الحكومية الفلسطينية وإلغاء تمويلها وتخريبها بشكل دائم.

وتهدف تل أبيب إلى استخدام البنية التحتية المترامية الأطراف لقوانين مكافحة الإرهاب، التي تمّ الدفع بها بعد أحداث 11 أيلول، سلاحاً يتمّ إشهاره في وجه المدافعين عن حقوق الإنسان الفلسطيني، من خلال وضعهم على قوائم الإرهاب الذي سيدفع المجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي إلى عدم التعامل معهم، والأهمّ من ذلك سيجعل تمويلهم أصعب.

وسبق لسفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة غلعاد إردان أن ادّعى أنّ الاتحاد الأوروبي يموّل حركة مقاطعة إسرائيل، وأنّه “يتجاهل أدلّة واضحة على أنّ منظمات المقاطعة، التي تتلقّى تمويلاً منها، بشكل مباشر أو غير مباشر، مرتبطة أو تتعاون مع منظمات إرهابية مثل حماس والجبهة الشعبية.”

وفي العام 2018 أصدر إردان تقريراً بعنوان “الملايين التي تمنحها مؤسسات الاتحاد الأوروبي إلى جمعيّات لها صلات بالإرهاب ومقاطعة إسرائيل”، وهي اتّهامات رفضها الاتحاد.

وكتبت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي حينئذٍ، فيديريكا موغيريني، أنّ “الاتّهامات بدعم الاتحاد الأوروبي للتحريض أو للإرهاب لا أساس لها من الصحة وغير مقبولة”.

تُعدّ إسرائيل موطناً لعشرات الشركات المصنّعة لبرامج القرصنة والتجسّس، والتي تعمل في إطار قطاع صناعة التكنولوجيا الفائقة، الذي يُعدّ من الصناعات المهمّة في إسرائيل

وتُعتبر المنظمات المستهدفة أركانَ المجتمع المدني الفلسطيني، وهي توسِّع منذ التسعينيّات عملها الذي اتّخذ دور فضح ومقاومة جرائم الاحتلال الإسرائيلي والتوسّع الاستيطاني، من خلال التوثيق الدقيق والرصد وجمع البيانات عن انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي، وغالباً ما يكون أعضاء منظّمات العمل المدني المصدر الأوّل للدبلوماسيين والأمم المتحدة الذين يعتمدون عليه لتقويم ما يحدث في الأراضي المحتلّة. وتلك المؤسسات هي خطّ الدفاع الأخير عن الأطفال في فلسطين، عبر تسليط الضوء على احتجازهم وإساءة معاملتهم في المحاكم العسكرية. وسيكون من الصعب محاسبة إسرائيل إذا تمّ إسكات أو إضعاف أو القضاء على بعض أهمّ منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية.

ورأى مراقبون أنّ قرار الحكومة الإسرائيلية إخراج 6 مؤسسات أهليّة فلسطينية عن القانون، بذريعة ارتباطها بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يذكِّر بقصف برج الجلاء المكوّن من 13 طابقاً في غزة خلال معركة سيف القدس، وتسويته بالأرض. وكان يضمّ عشرات المؤسسات الإعلامية المحليّة والدوليّة، منها مكتب وكالة “أسوشييتد برس” التابع للحكومة الأميركية، ومكتب قناة الجزيرة. وقد ادّعى حينئذٍ الجيش الإسرائيلي أنّ حماس استخدمت البرج نقطة انطلاق لنشاطاتها العسكرية والإرهابية، ودرعاً بشرياً لمنع الإضرار بوسائلها الإلكترونية في المبنى، ومنها أدوات تستخدمها لتعطيل نظام تحديد مواقع إطلاق الصواريخ من غزّة.

وزعم سفير إسرائيل لدى واشنطن والأمم المتحدة، غلعاد إردان، الذي ربط المنظمات الحقوقية الفلسطينية بالإرهاب، أنّ “حركة حماس استخدمت برج الجلاء لتطوير منظومة تشويش إلكترونية على أنظمة القبّة الحديديّة ونظم الملاحة الإسرائيلية العاملة عبر الأقمار الصناعية”.

ومع مرور الوقت تأكّد أنّ قرار قصف البرج لم يُتّخذ لأسباب تشغيلية أو عسكرية، لكن كان هجوماً للبحث عن صورة الانتصار. إذ كان الجيش الإسرائيلي ونتانياهو يبحثان عن شيء لوقف العملية ويمكن أن يُنقَل للجمهور على أنّه انتصار، خاصةً بعد الفشل الذي ظهر في تدمير مترو أنفاق حماس.

وأدّى تدمير برج الجلاء إلى وضع إسرائيل في مرمى الانتقادات الدولية، وشكّل نقطة تحوّل في مسار عمليّة “سيف القدس”، حيث تعرّض الرئيس بايدن لضغوط شديدة من التيار اليساري في الحزب الديموقراطي لدفعه إلى التدخّل شخصياً لوقف العملية العسكرية في غزة، فيما قال وزير خارجيّته أنتوني بلينكن إنّه لا دليل على أنّ حماس قد استخدمت برج الجلاء للقيام بنشاطات عسكرية.

إقرأ أيضاً: إسرائيل تخشى “انتفاضة” داخل الخطّ الأخضر

وأوضحت منظمة “مراسلون بلا حدود” حينئذٍ أنّ لديها سبباً قويّاً للاعتقاد بأنّ “الاستهداف المتعمّد لجيش الاحتلال للمنظمات الإعلامية، والتدمير المتعمّد لمعدّاتها، هو لتكميم الأفواه، وعدم نقل الحقيقة”.

مواضيع ذات صلة

“دوخة” نيابيّة: جلسة من دون فرنجيّة وجعجع!

“الوضع بدوّخ. المعطيات مُتضاربة ومُتغيّرة كالبورصة. ولا توافق سياسيّاً بالحدّ الأدنى حتى الآن على أيّ اسم لرئاسة الجمهورية”. هي حصيلة مختصرة للمداولات الرئاسية في الأيّام…

جعجع في عين التّينة لإنضاج الرّئاسة؟!

عاثرٌ جدّاً حظّ سليمان فرنجية. مرةً، واثنتيْن وثلاث مرّات، بلغت الرئاسة حلقه، لتُسحب في اللحظات الأخيرة، فيقف على أعتاب القصر عاجزاً عن دخوله، ويعود أدراجه…

يومٌ في دمشق: فرحٌ ممزوج بالقلق

مرّت 14 سنة بالتّمام والكمال عن المرّة الأخيرة التي زُرتُ فيها العاصمة السّوريّة دِمشق، في كانون الأوّل من عام 2010، أي قبل 4 أشهر من…

برّي والرّئاسة: Now or Never

ما كادت تمرّ أيّام قليلة على الإطاحة بالنظام السوري، حتى ظهرت أوّل تداعيات “الانقلاب الكبير” على الرقعة اللبنانية، في شقّها الرئاسي: انقلبت أدوار القوى السياسية،…