التظاهرات الحاشدة، التي تنطلق من مدن وبلدات 48 داخل الخطّ الأخضر في إسرائيل (الناصرة، أمّ الفحم، عيلوط، وادي عارة) كلّ يوم جمعة، احتجاجاً على الجريمة المنظّمة داخل الخطّ الأخضر، وتواطؤ الشرطة الإسرائيلية معها، وانعدام الأمن والأمان للمواطنين العرب، والتي يرفع فيها المتظاهرون شعارات ضدّ الشرطة من قبيل “يا شرطي يا خسيس… الدم العربي مش رخيص”، ليست إلا انعكاساً لأزمة عميقة بين الجمهور العربي والدولة العبريّة، اشتدّت مع وصول الضغط الإسرائيلي على فلسطينيّي 48 إلى نقطة الغليان. ضغط يظهر في ارتفاع معدّلات التوتّر بين اليهود والعرب في المدن الفلسطينية المحتلّة عام 1948، وزيادة تدخّلات أجهزة الأمن والشرطة وحرس الحدود في حياتهم، والتضييق على حرّيّاتهم، وتصنيفهم أعداء حقيقيّين لدولة الاحتلال، واتّهامهم بالتواصل مع قوى المقاومة وتقديم التسهيلات لها في ضوء أحداث نفق جلبوع، والأخطر هو الارتفاع القياسي للجريمة في الوسط العربي.
يمكن القول إنّ الشرطة الإسرائيلية قد ساهمت بشكل كبير في تفشّي ظاهرة العنف والجريمة المنظّمة داخل الوسط العربي بسبب غضّ النظر وعدم الاكتراث وعدم تخصيص ما يكفي من المقدّرات
من أجل ذلك، يتحسّب الإسرائيليون لسيناريو يتمثّل في وصول الجانبين إلى حالة من المواجهة المفتوحة، وتتأهّب سلطات الاحتلال لإمكانيّة اندلاع هبّة شعبيّة جديدة مفتوحة بالداخل، على غرار ما حدث قبل ستة أشهر، حين هبّ فلسطينيّو 48 بالتزامن مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، والمواجهات التي جرت في حيّ الشيخ جرّاح والمسجد الأقصى.
ووصف وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي عومير بارليف مشاركة فلسطينيّي الداخل في الأحداث، التي جرت خلال عملية “حارس الأسوار” التي استهدفت غزّة، بأنّها مثّلت “مفاجأة كبيرة بالنسبة إلى إسرائيل”.
وقال بارليف، خلال المؤتمر السنوي لمعهد “سياسة مكافحة الإرهاب” بجامعة هرتسليا، إنّ “إسرائيل لم تكن مستعدّة لمثل هذا السيناريو”.
ويعتبر الإسرائيليون أنّ فرضيّة إشعال الساحات في الداخل المحتلّ مرّة جديدة، وعودة الاشتباكات اليهودية العربية التي شهدها شهر أيار الماضي، هي فرضيّة واقعيّة، يعزّزها الواقع الراهن، وقد تأخذ منحى أوسع نطاقاً.
وكشفت صحيفة “معاريف” أنّ “هذه الأجواء المتوتّرة دفعت الأجهزة الأمنيّة في إسرائيل، للمرّة الأولى، إلى إجراء تدريب على سيناريوهات “أعمال عنف واحتجاج” في فلسطين 48″.
وأضافت الصحيفة أنّ “تمرين الجبهة الداخلية سيشمل، للمرّة الأولى، انخراط المنظومة الأمنيّة والشرطة وخدمات الإنقاذ في مواجهة سيناريوهات عنيفة غير عاديّة في المدن المعنيّة داخل الوسط العربي، تجري بالتوازي مع سيناريو الحرب المتوقّعة، وذلك كجزء من دروس عمليّة “حارس الأسوار”، حيث إنّ السيناريو المتوقّع هو اندلاع حرب متعدّدة الساحات تجمع بين المواجهة العسكرية مع غزّة، وحوادث العنف المدنيّة داخل فلسطين 48، ومن ضمنها إغلاق الشرايين المروريّة”.
ارتفاع معدّلات الجريمة
ويصل عدد السكّان الفلسطينيّين في مناطق الـ48 المحتلّة إلى نحو مليون ونصف مليون نسمة، وهم المجموعة التي تحمل الجنسية الإسرائيليّة وتعيش في الجليل والمثلّث والنقب والمدن الساحليّة، إضافة إلى اللدّ والرملة.
يتحسّب الإسرائيليون لسيناريو يتمثّل في وصول الجانبين إلى حالة من المواجهة المفتوحة، وتتأهّب سلطات الاحتلال لإمكانيّة اندلاع هبّة شعبيّة جديدة مفتوحة بالداخل
وقد انتقل العنف والجريمة في الوسط العربي داخل إسرائيل، في السنوات الأخيرة، من “الساحة الخلفيّة” إلى “مقدّمة المنصّة”.
ويشكّل العرب داخل الخطّ الأخضر 64% من ضحايا القتل في إسرائيل، على الرغم من أنّهم يشكّلون 20% من السكّان. وبحسب المعطيات فإنّ 98 من أبناء الوسط العربي قُتِلوا منذ بداية العام 2021.
وقد تصدّر لفترات طويلة مواقع التواصل الاجتماعي هاشتاغ “حياة العرب مهمّة”، وهو يشبه شعار “حياة السود مهمّة”، الذي تصدّر التظاهرات في أميركا، احتجاجاً على مقتل جورج فلويد على يديْ شرطيّ أميركيّ أبيض.
ويمكن القول إنّ الشرطة الإسرائيلية قد ساهمت بشكل كبير في تفشّي ظاهرة العنف والجريمة المنظّمة داخل الوسط العربي بسبب غضّ النظر وعدم الاكتراث وعدم تخصيص ما يكفي من المقدّرات.
سأل عيسوي فريج، وهو الوزير العربيّ الوحيد في حكومة بينيت: “أتعرف لماذا لا يخاف اليهود التجوّل في البلدات العربية؟”، وأجاب: “لأنّهم يعرفون أن لا أحد يمسّ بهم، فعندما يقتل عربيّ يهوديّاً، يصبح هذا فجأة قوميّاً متطرّفاً، فيفعلون كلّ شيء كي يلقوا القبض عليه، لكن عندما يقتل عربيٌّ عربيّاً آخر لا يلقون القبض على القاتل، وإذا ما ألقوا القبض عليه فهذا ينتهي دوماً بعقاب مخفّض”.
وأوضح فريج أنّ “الدولة العبريّة فكّت ارتباطها بالسكّان العرب في عام 1964، وانتهى الحكم العسكري، لكنّ فكّ الارتباط كان من طرف واحد، مثل فكّ الارتباط بغزّة تقريباً”. وحول سياسة فكّ الارتباط، قال فريج: “لقد قالت السلطات الإسرائيلية للعرب ليس مهمّاً ما تفعلون، المهمّ أن تلقوا ببرازكم داخل بيوتكم”.
وأضاف فريج: “لقد فتح اتّفاق أوسلو تيّار السلاح، بغطاء من السلطات الإسرائيلية. وكلّ من أراد حيازة سلاح غير قانونيّ عرف من أين يحصل عليه، بالتوازي مع فتح تيّار المال. فقد اكتشف الناس المال السهل، وتسلّل هوامش المجتمع إلى المركز. وهم يفوزون في عطاءات السلطات المحليّة، وفي التعيينات، وفي غزو الأراضي العامّة”.
“الجريمة هي الخطر”
واعتبر فريج أن “لا غزّة، ولا أبو مازن، ولا إيران، هم مَن يهدّدون استقرار الحكومة الإسرائيلية، بل الجريمة في الوسط العربي”.
من جهتها، رأت الدكتورة سونيا بولس، ضمن دراسة في مجلّة “دراسات الأرض المقدّسة وفلسطين” الصادرة عن جامعة “إدنبرة”، بعنوان “ضبط الأمن للأقلّيّة الوطنية الفلسطينية في إسرائيل”، أنّ “وظيفة الشرطة في الدولة المنقسمة قوميّاً أو دينيّاً والدول الاستيطانية، ومنها إسرائيل، هي إدامة هيمنة الأغلبيّة”.
إقرأ أيضاً: غزّة: صفقة أسرى.. أم صفقة كبرى؟
وأشارت بولس إلى أنّ أبحاثاً عديدةً تفسّر خصوصيّة عمل أو دور الشرطة في هذه السياقات، ومنها على سبيل المثال أبحاث رونالد وايتزر عن الشرطة في الدول المنقسمة قوميّاً وعرقيّاً، التي قال فيها إنّ السمة الأساسيّة لهذه الدول هي وجود مجموعة مهيمنة على الدولة ومسيطرة على السياسة والاقتصاد، ووجود أقليّة ليس ضروريّاً بالمفهوم العدديّ، بل ربّما بمفهوم توازن القوى، وإنّ من أدوار الشرطة المركزية في هذه الدول إدامة الهيمنة القائمة، وإحباط محاولة المجموعة “الخاضعة” تهديد الهيمنة القائمة ونظام الدولة القائم عليها، وإظهار همجيّة وعنف الأقلّيّة.