ثمّة مقالة عبقريّة ومكثّفة كتبها الهادئ اللمّاح تركي الدخيل قبل أسابيع قليلة. تصحّ في كلّ زمان وفي كلّ مكان. تستند في روحيّتها المجرّدة إلى اعتماد التغافل سبيلاً ناجعاً للترفّع. وقد ساق في متن فكرته تلك ما يفيض من أقاصيص التغافل وفضائله وعجيبه وكريمه، ولا سيّما لجهة قدرته على الامتصاص والاحتواء والتطويق، مستذكراً قصّة امرأة جاءت رجلاً يُدعى حاتماً لتسأله في مسألة، وحين صارت في حضرته، خرج منها صوتٌ حملها على خجل شديد، فاستدرك حاتم الموقف، وأظهر لضيفته أنّه أصمّ. فانفرجت أساريرها وارتاحت. ولُقّب الرجل مذّاك بحاتم الأصمّ.
ونحن على سجيّة المرأة تلك. ندرك تمام الإدراك أنّ بلادنا ممسوكة من رقبتها، وأنّ مَن يمسكها هم قلّة وضيعة في بحر كثرتنا الكاثرة، التي طالما خجلت بهم وبما يقترفون من سياسات وممارسات وموبقات. لكنّ ما يُريح خجلنا هي معرفتنا العميقة بأنّ الأشقّاء الكبار يتغافلون ويتجاوزون ويترفّعون، لا لضعف أو هوان، بل لأنّهم يجبرون خاطرنا ويحتضنون ضعفنا. وقد ظلّوا يفعلون ذلك على الدوام، حتّى انتزعوا الأذن الصمّاء من حاتم الأصمّ.
ماذا ينتظر نجيب ميقاتي؟ حراكاً أميركياً على خطّ التهدئة؟ دخولاً فرنسياً على خطوط الاتّصالات؟ حراكاً عربياً؟ ألا يكفيه الكلام الواضح والمواقف الصريحة لوزير الخارجية السعودي؟ ألا يشعر بالإهانة حين يدرك أنّه لا يملك في حكومته سوى قرار استقالته
لكن ما عاد التغافل يؤتي أُكُله، حاله في ذلك حال إكرام اللئيم، حتّى بدا وكأنّ الكلام المسرَّب لوزير خارجيّة لبنان هو بمنزلة الإصرار والتأكيد الممنهج على غرز الخنجر في الخاصرة، والإمعان في رشّ الملح على الجروح المثخنة، وهذا الذي كنّا نظنّه رجلاً عاقلاً ودبلوماسيّاً مخضرماً. ثمّ جاءت موجة المواقف والتصعيد لتعطي انطباعاً ناجزاً، لا لبس فيه، مفاده أنّ لبنان الرسمي بات في موقع العداء الكامل، من رئيس جمهوريّته المفصوم والمنفصل تماماً عن الواقع، إلى رئيس حكومته المنتظر والمتريّث والواهم، إلى وزرائه الذين يُغنّي كلٌّ منهم على ليلاه.
هذا تماماً ما عكسه الكلام الاستثنائي لوزير الخارجيّة السعوديّ فيصل بن فرحان، الذي أشار بشكل مباشر إلى أنّ مشكلة دول الخليج مع لبنان لا تتعلّق بتصريحات وزير إعلامه وحسب، بل تتجاوزها إلى ما هو أدقّ وأشمل وأعمق، وهذا ما يتعلّق تحديداً بهيمنة حزب الله المطلقة على المشهد السياسي برمّته، وعلى المؤسّسات الدستورية، ولا سيّما الحكومة، التي عمد إلى تسميتها بالاسم، على اعتبار أنّها حكومة حزب الله.
ما كان لهذه الحكومة أن تبصر النور لولا توثّب نجيب ميقاتي نحو دور يصبو إليه. وهو دور المنقذ الذي طالما دغدغ كلّ رؤساء الحكومات منذ هوى رفيق الحريري، ذاك الرجل الذي أتقن ما لا يتقنه أحد سواه. ظنّوا لبرهة أنّهم قادرون على التقاط اللحظة وعلى صناعة التشابه. لكنّهم ما استطاعوا. وها هو نجيب ميقاتي يسلك عبثاً المسلك نفسه. اعتقد أنّ الأزمة الهائلة يُمكن أن تُعالَج بتقبيل اللحى وتدوير ما تيسّر من الزوايا الحادّة، عبر اعتماد لغة رماديّة ومنطق تسوويّ لا يستوي على الإطلاق مع هول المرحلة ومقتضياتها، ولا يتناسب بأيّ شكل من الأشكال مع تغوّل حزب الله وإصراره على الاستفزاز، وهذا ما بدا جليّاً في التصريحات الفاقعة لكبار مسؤوليه عقب اشتعال الأزمة، خصوصاً ما قاله رئيس كتلته النيابيّة، ولاحقاً نائب الأمين العامّ.
بعد تأليف الحكومة، تركّزت الصدمة على تركيبتها الخدّاعة وتوازناتها المختلّة، التي أظهرت أكثريّة موصوفة تدور في فلك حزب الله، ثمّ استحالت الصدمة أمراً واقعاً مع تعطيل جلساتها بقرار واضح ومباشر من المُمْسك برقبتها، لتعود وتظهر بصورتها الحقيقيّة عقب الكلام الذي أطلقه وزير الإعلام، ثمّ الكلام المسرّب لوزير الخارجية، في ظلّ صمت مطبق ومعيب من رئيس الحكومة الذي اكتفى ببيان شخصيّ لا يعدو كونه محاولة لرفع العتب، وكأنّه ناشط سياسي أو اجتماعي، ثمّ راح يستظلّ مظلّة دوليّة تتيح له البقاء في منصبه، وتمنعه من تجرّع كأس الاستقالة المرّ، بعد تشكيلة بديعة لم تنجز أيّ شيء سوى صورتها التذكاريّة.
ماذا ينتظر نجيب ميقاتي؟ حراكاً أميركياً على خطّ التهدئة؟ دخولاً فرنسياً على خطوط الاتّصالات؟ حراكاً عربياً؟ ألا يكفيه الكلام الواضح والمواقف الصريحة لوزير الخارجية السعودي؟ ألا يشعر بالإهانة حين يدرك أنّه لا يملك في حكومته سوى قرار استقالته، وأنّ الغالبيّة الغالبة من الوزراء يمثّلون الجهة التي تصرّ على استهداف هذه الدول واستفزازها على نحو غير مسبوق وغير مقبول؟
يخشى الأميركيون والفرنسيون تطيير الانتخابات في حال إسقاط الحكومة. عظيم. ومَن قال أساساً إنّه لا يُمكن تطييرها في حال وجود حكومة؟ أليست أحداث الطيّونة خير دليل على ذلك؟ ثمّ مَن قال إنّ حكومة تصريف الأعمال لا يمكنها أن تُدير الانتخابات؟ يُمكن لوزير الداخلية أن يقوم بهذه المهمّة من موقعه في تصريف الأعمال، ووجود الحكومة أو استقالتها لن يُغيّر في هذا الأمر قيد أنملة، لكنّه قد يساهم على نحو فعّال في تبديد جزء كبير من الاحتقان والتوتّر، وفي استعادة جزء يسير من التوازن السياسي والوطني.
إقرأ أيضاً: استقالة قرداحي: يريدها عون ولا يمانعها برّي
السعودية ودول الخليج مارسوا سياسة التغافل المقصود على مدى عقد ونيّف. تغافلوا عن العبث الموثّق في البحرين، ثمّ تغافلوا عن خليّة العبدلي في الكويت، وكذلك عن قضيّة الرمّان الملغوم في السعودية، وعن الأدوار التخريبية في اليمن، من التدريب والتجهيز والإشراف، وصولاً حتى المشاركة في الاستهداف المباشر لمنشآت ومراكز حيويّة داخل المملكة ودول الخليج. تجاوزوا على الرغم من كلّ ذلك وترفّعوا، كرمى عيوننا، نحن الشعب اللبناني المخطوف عنوةً، والرافض جملةً وتفصيلاً لكلّ هذه الممارسات، لكنّ كيلهم قد طفح، والمطلوب أن نتعاطى مع انتفاضتهم المحقّة بمنتهى الاستجابة والتفهّم والحرص، وهذا لن يكون ما لم يسارع رئيس الحكومة إلى إعلان استقالته، كصدمة إيجابية لا بدّ منها، وكبادرة حُسن نيّة، ليس اتّجاه هذه الدول الشقيقة وحسب، بل اتّجاه أنفسنا وما بقي من كرامتنا ومروءتنا وماء وجوهنا.
إستقِل الآن يا دولة الرئيس. هذا هو طريقك الوحيد. وما دونه وهمٌ وجنونٌ وسراب.