لم يكن من باب الصدفة أن يحرِّك رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان ملفّ “التوظيفات غير القانونيّة” في القطاع العام، التي يتجاوز عددها 32 ألف وظيفة، فيما تقف البلاد على مشارف استئناف مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي. فمسألة إعادة هيكلة القطاع العام، وترشيد عدد الوظائف فيه، وصولاً إلى تقليص حصّة الرواتب والأجور من إجمالي الميزانيّة العامّة، شكّلا منذ البداية أبرز الشروط التي تحدّث عنها صندوق النقد في مفاوضاته مع لبنان. بل ويمكن القول أيضاً إنّ هذا الشرط بالتحديد يمثّل في الوقت الراهن البند الأبرز الذي لم تقاربه الدولة اللبنانيّة على الإطلاق منذ بدء الانهيار، فيما شهدت جميع الملفّات الأخرى تطوّرات إيجابيّة أو سلبيّة في مراحل مختلفة.
من الناحية الاجتماعيّة، ثمّة 330 ألف موظّف يعتاشون في الوقت الحالي على رواتب القطاع العام، في حين يوجد أكثر من 120 ألف شخص على قوائم المستفيدين من الرواتب التقاعديّة. وبحسب هذه الأرقام يتجاوز عدد موظّفي ومتقاعدي القطاع العام حدود 440 ألف فرد، أي ما يقارب ثلث القوى العاملة في البلاد. وبذلك لا يمكن تجاهل التداعيات الاجتماعيّة والمعيشيّة التي يمكن أن تطول أيّ عمليّة إعادة هيكلة شاملة للإدارة العامة والتوظيفات فيها، خصوصاً إذا تخلّل هذه العمليّة إجراءات صرف، أو نقل لهذه الوظائف إلى القطاع الخاص في مؤسسات غير مستقرّة. باختصار، لن تقتصر تداعيات هذا المسار على القطاع العام وحده خلال المرحلة المقبلة، بل ستترك أثرها على معيشة نسبة وازنة من المقيمين في البلاد ومستواهم الاجتماعي.
مسألة إعادة هيكلة القطاع العام، وترشيد عدد الوظائف فيه، وصولاً إلى تقليص حصّة الرواتب والأجور من إجمالي الميزانيّة العامّة، شكّلا منذ البداية أبرز الشروط التي تحدّث عنها صندوق النقد في مفاوضاته مع لبنان
لكنّ حسابات صندوق النقد تختلف تماماً عن كلّ هذه الأولويّات. بالنسبة إلى الصندوق، لن تتمّ الموافقة على أيّ برنامج قرض للبنان دون التيقّن من قدرة الدولة على استعادة ملاءتها الائتمانيّة في المستقبل، أي قدرتها على سداد ديونها عند الاستحقاق، ومن بينها قرض الصندوق نفسه. وبحسب أرقام الميزانيّة العامّة الحاليّة، تقتصر إيرادات الدولة اللبنانيّة اليوم على نحو 13.8 ألف مليار ليرة لبنانيّة فقط، فيما تستنزف كتلة الرواتب والأجور نحو 12 ألف مليار ليرة من هذه الميزانيّة.
بمعنى آخر، لا تملك الدولة اللبنانيّة وفقاً لإيراداتها اليوم إلا نحو 1.8 ألف مليار ليرة فقط بعد سداد رواتب موظّفيها ومتقاعدي القطاع العام، أي أقلّ من 111 مليون دولار وفقاً لسعر صرف الليرة في السوق الموازية اليوم. وهذا الرقم لا يكفي حكماً لسداد فوائد سندات اليوروبوند وسندات الدين العام بالليرة اللبنانيّة، أو أصل قيمة هذه السندات، حتّى في حال إعادة هيكلتها، ولا يكفي أيضاً لأيّ إنفاق استثماري في البنية التحتيّة. ولهذا السبب بالتحديد، يضع الصندوق المعنيّ بسلامة الوضع الماليّ للدولة في المستقبل في حال منحها أيّ قروض، نصب عينيه مسألة التعامل مع كتلة الرواتب والأجور هذه. وهو ما يفرض التفاوض مع الدولة اللبنانيّة على إعادة هيكلة القطاع العام بأسره.
من هنا يمكن فهم لما حركة رئيس لجنة المال والموازنة النيابيّة إبراهيم كنعان في ملفّ موظّفي القطاع العام، من بوّابة التوظيفات غير القانونيّة التي اعتمد لتقديرها على تقرير سابق أعدّه التفتيش المركزي. مع الإشارة إلى أنّ وجود 32 ألف موظّف غير قانوني في القطاع العام يعني ببساطة أنّ ما يقارب 10% من موظّفي القطاع العام يعملون خارج الإطار النظامي. وهذا الواقع، بالتحديد، مثّل بالنسبة إلى كنعان الباب الذي يمكن من خلاله الدخول في ملفّ إعادة هيكلة القطاع العام ووظائفه.
في كلّ الحالات، من المهمّ الإشارة إلى أنّ هذه الوظائف غير النظاميّة، التي يتحدّث عنها كنعان، تشمل على سبيل المثال نحو 5300 وظيفة اُستُحدثت قبيل الانتخابات النيابيّة الأخيرة، وجرى تقاسمها بين غالبيّة الأحزاب النافذة، وعلى رأسها التيار الوطني الحر نفسه. وجميع هذه التوظيفات خالفت من الناحية العمليّة مضمون قانون السلسلة الشهير، الذي نصّ على تجميد التوظيف في القطاع العام، في محاولة لِلَجم كلفة الرواتب والأجور في الميزانيّة العامّة. ولهذا السبب تحديداً، تم تصنيف جميع هذه الوظائف كوظائف غير نظاميّة أو غير قانونيّة.
لا تملك الدولة اللبنانيّة وفقاً لإيراداتها اليوم إلا نحو 1.8 ألف مليار ليرة فقط بعد سداد رواتب موظّفيها ومتقاعدي القطاع العام، أي أقلّ من 111 مليون دولار وفقاً لسعر صرف الليرة في السوق الموازية اليوم
من هذه الوظائف مثلاً، جميع أشكال التعاقد التي جرت في مصالح المياه المستقلّة، والتي استفاد التيار الوطني الحر من الجزء الأكبر منها.
ومن ناحية مندرجات قانون السلسلة، لم يكن وقف التوظيف المسألة الوحيدة التي لم يتمّ احترامها لاحقاً بالنسبة إلى وظائف القطاع العام. فالقانون نصّ في ذلك الوقت على إجراء مسح شامل للإدارة العامّة بجميع مديريّاتها ومؤسّساتها، خلال مهلة لا تتعدّى ستّة أشهر، ونصّ أيضاً على وضع خطّة لإعادة هيكلة الإدارة لزيادة فعّاليّتها. لكنّ كلتا المسألتين، كما بات معلوماً، لم تُنفَّذا لاحقاً، لا بل امتنعت غالبيّة المديريّات عن تزويد التفتيش المركزي بالإحصاءات والأرقام المتعلّقة بعدد الموظفين وطبيعة عملهم، وحتّى لم يتمّ تحديد الوصف الوظيفي لهؤلاء.
عاد اليوم الموضوع إلى بساط البحث، إنّما تحت وطأة شروط صندوق النقد القاسية. ولعلّ إشارة البيان الوزاري للحكومة الجديدة إلى إنجاز المسح الشامل للإدارة العامّة، وتحديد الوصف الوظيفي للموظّفين، وإقرار قانون لتقويم الأداء، تمثّل تمهيداً طبيعيّاً لفتح الملفّ بشكل متدرّج. وطريق إعادة هيكلة القطاع العام، سواء شملت عمليّات صرف أو تحويل لموظفين إلى القطاع الخاص، أم لم تشمل، لا يمكن إلا أن تمرّ أوّلاً بجرد الوظائف الموجودة وطبيعة عمل كلّ من الموظّفين.
إقرأ أيضاً: دعوا الأوهام: رفع الدعم لن ينهي طوابير الذلّ
أمّا الخشية الكبرى فتكمن في إمكانيّة أن يخضع هذا المسار بأسره لشروط صندوق النقد كما هي، ومن بينها تلك التي قد تفضي إلى خفض كلفة الرواتب والأجور من خلال صرف واسع النطاق لموظّفين. في هذه الحالة، ستكون كلفة هذه المعالجات قاسية على المستوى المعيشي والاجتماعي، وخصوصاً بالنظر إلى حجم العائلات المستفيدة حالياً من رواتب القطاع العام. ولعلّ تركيز الصندوق في العادة على هذا النوع من المعالجات بمعزل عن أثرها، هو ما أكسبه منذ زمن طويل الصيت السيّئ في الدول المُفلِسة.