دعوا الأوهام: رفع الدعم لن ينهي طوابير الذلّ

مدة القراءة 7 د

منذ أشهر واللبنانيون يسمعون بشكل متكرّر التحليلات التي تربط بين رفع الدعم وبين عودة المحروقات إلى المحطات من دون قيود لتنهي طوابير الذلّ اليومية. أو بين تلك التي تربط حماية ما تبقّى من احتياطات في مصرف لبنان، وبين عمليّة رفع الدعم.

بالتأكيد، ثمّة علاقة واضحة بين آليّات دعم الاستيراد التي كان يعتمدها مصرف لبنان من جهة، وبين أزمتيْ شحّ المحروقات واستنزاف الاحتياطات من جهة أخرى. لكنّ اعتبار رفع الدعم وحده حلّاً تلقائياً للمشكلتين، لم يكن أكثر من وهم غير مبني على أيّ أساس علمي أو اقتصادي، بدلالة تطوّرات الأيّام الماضية.

لا تزال منصّة مصرف لبنان المعتمدة للتداول بالعملات الأجنبيّة محصورة بنطاق عمل ضيّق جداً، نظراً إلى التباين بين سعر الصرف المعتمد فيها وبين سعر صرف السوق الموازية الأعلى نسبيّاً

نشر مصرف لبنان خلال الأيّام الماضية ميزانيّته نصف الشهريّة، التي تعكس وضعيّة المصرف حتّى منتصف شهر أيلول الحالي. في هذه الميزانيّة، تبيّن أنّ المصرف المركزي بدّد نحو 1.64 مليار دولار أميركي من احتياطاته بالعملة الصعبة، خلال النصف الأوّل من هذا الشهر وحده. حدث هذا التراجع في احتياطات المصرف على الرغم من التفاهم الذي جرى في قصر بعبدا منذ شهر آب الماضي، والذي يقوم بموجبه مصرف لبنان منذ ذلك الوقت ببيع الدولارات المطلوبة لاستيراد المحروقات وفق سعر المنصّة التي يعتبرها حاكم مصرف لبنان “سعر السوق”، في حين أنّ الحكومة هي التي تدعم من ميزانيّتها الفارق بين سعر الصرف المرتفع هذا وبين سعر الصرف المدعوم الذي اعتمده عند حدود 8000 ليرة للدولار الواحد.

بمعنى آخر، رفع مصرف لبنان نظريّاً الدعم، على الأقلّ من ناحية سعر الصرف المعتمد لبيع الدولارات التي يحتاج إليها المستوردون، ومع ذلك لم تؤدِّ هذه العمليّة إلى وقف استنزاف الاحتياطات الموجودة لدى المصرف المركزي. لا بل، وكما كان واضحاً طوال الفترة الماضية، لم تؤدِّ هذه التسوية التي جرت بضغط من العهد على الحاكم، إلى تسهيل عمليّة استيراد البنزين أو إنهاء أزمة شحّه في السوق. وفي كلّ الحالات، كانت هذه التسوية محصورة بسقف محدّد من الاعتمادات، لم يتجاوز حدود 225 مليون دولار. 

ومنذ الأسبوع الماضي، أعلنت وزارة الطاقة والمياه عن جدول أسعار جديد لبيع البنزين في الأسواق، أظهر بوضوح، أنّ ثمن البضاعة تمّ تقديره في الجدول وفقاً لسعر صرف المنصّة نفسها، أي مجدّداً وفقاً لسعر “صرف السوق” بحسب تقدير المصرف المركزي. وبحسب آليّة الاستيراد الجديدة، سيكون على مستوردي البنزين الاعتماد على المنصّة للحصول على الدولارات المطلوبة للاستيراد، وهي الآليّة التي يعتبرها حاكم مصرف لبنان آليّة استيراد غير مدعوم.

ومع ذلك، لم يحدث أيّ تحسّن حتّى اللحظة على مستوى توفّر البنزين في المحطات، على الرغم من تكرار الحديث عن البواخر الموجودة حالياً قبالة الشواطىء اللبنانيّة، التي تنتظر فتح الاعتمادات اللازمة لها لتفريغ حمولتها. حتّى في ما يتعلّق بتوفير المازوت غير المدعوم، الذي تمّ تسعيره بالدولار الأميركي النقدي، لم يحدث أيّ انفراج.

بلومبيرغ: معدلات التضخم في لبنان تجاوزت زيمبابوي وفنزويلا!!

كلّ هذه التطوّرات تقودنا إلى خلاصة واحدة: حلّ أزمتيْ شحّ المحروقات، واستنزاف احتياطات مصرف لبنان، لن يكون برفع الدعم وحده، حتى لو ارتبطت الأزمتان في السابق بالطريقة التي كان يتمّ من خلالها الدعم. وتعود هذه الخلاصة، وفقاً لمصادر مصرفيّة مطّلعة، إلى آليّات الاستيراد للأسباب التالية:

أوّلاً: لا تزال منصّة مصرف لبنان المعتمدة للتداول بالعملات الأجنبيّة محصورة بنطاق عمل ضيّق جداً، نظراً إلى التباين بين سعر الصرف المعتمد فيها وبين سعر صرف السوق الموازية الأعلى نسبيّاً، وهو ما يدفع معظم مَن يحملون الدولار إلى بيعه في السوق السوداء. ولهذا السبب، معظم الدولارات التي تُباع للاستيراد عبر المنصّة ستُوفَّر من المصرف المركزي، ما دامت المنصّة غير قادرة على توفيرها من السوق مباشرةً. وبذلك يصبح سعر صرف المنصّة نفسه سعراً مدعوماً من قبل مصرف لبنان، ولو عند معدّلات مرتفعة قياساً بأسعار الصرف المدعومة القديمة. أي أنّها تخرج من الاحتياطي الإلزامي ولا تأتي من الدورة المالية في السوق.

 يُتوقَّع أن يؤدّي بيع الدولارات للمستوردين من خلال المنصّة، ووفق أسعار الصرف المرتفعة، إلى سحب كميّات كبيرة من الليرة من السوق

ثانياً: ليس بإمكان مصرف لبنان إحالة الطلب على الدولار لاستيراد جميع أنواع المحروقات، ومن بينها البنزين، إلى السوق السوداء مباشرةً ودفعةً واحدةً، لكون هذه العمليّة ستؤدّي إلى هبوط مفاجىء وسريع في سعر صرف الليرة مقابل الدولار، نتيجة ضرب توازنات العرض والطلب الموجودة حالياً في هذه السوق. 

ثالثاً: ليس بإمكان مصرف لبنان رفع سعر صرف المنصّة بشكل سريع، والدخول في عمليّة شراء واسعة للدولار من السوق السوداء، لكون ذلك سيؤدّي إلى نفس النتيجة: الضغط على سعر صرف الليرة. 

لكلّ هذه الأسباب، بات مصرف لبنان مقيّداً بالكثير من الحسابات والاعتبارات في ما يخصّ تمويل استيراد البنزين عبر المنصّة. المسألة الأكيدة هي أنّ الاعتماد على المنصّة لبيع الدولارات لمستوردي البنزين لن يؤدّي إلى وقف تقنين هذه الاعتمادات خلال المرحلة المقبلة، ولن يؤدّي إلى انسحاب مصرف لبنان من مهمّة توفير الدولارات للمستوردين. وهو ما سيعني استمرار الأزمة طوال الفترة المقبلة بمعزل عن عمليّة رفع الدعم. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ استمرار المصرف المركزي بالتدخّل بهذا الشكل، سيجعل من رفع الدعم عمليّة شكليّة، إلى أن تصبح المنصّة وحدها قادرة على الحصول على هذه الدولارات من السوق مباشرةً، وإلى أن يتمكّن مصرف لبنان من الانسحاب من هذه المهمّة. 

على ماذا يراهن مصرف لبنان إذاً، ما دامت أزمة المحروقات مستمرّة حتّى بعد إحالة المستوردين إلى المنصّة؟ 

خلال الفترة الماضية، أصدر مصرف لبنان تعميماً طلب بموجبه من المصارف وقف تدخّلاتها في السوق السوداء، أي وقف عمليّات شراء الدولار النقدي مقابل شيكات مصرفيّة، وهي عمليّة كانت تستنزف قدراً كبيراً من الدولار المعروض في السوق. وهذا الإجراء، يُفترَض أن يساهم تدريجيّاً في زيادة حجم الدولارات المعروضة مقابل الطلب. 

في المقابل، يُتوقَّع أن يؤدّي بيع الدولارات للمستوردين من خلال المنصّة، ووفق أسعار الصرف المرتفعة، إلى سحب كميّات كبيرة من الليرة من السوق. ويُتوقَّع أيضاً أن يساهم ارتفاع أسعار المواد الأساسيّة، وخصوصاً المحروقات، في خفض القدرة الشرائيّة للمستهلكين، الذي يؤدّي بدوره إلى انخفاض الطلب على السلع المستورَدة. وهذا التطوّر يُمكن أن يساهم في خفض الطلب على الدولار على المدى المتوسّط.

إقرأ أيضاً: استعدّوا للحلّ القاسي: ستأخذون دولاراتكم بالليرة

بفعل العامليْن معاً، سيكون بإمكان مصرف لبنان أن يبدأ بخفض سعر صرف السوق السوداء تدريجياً من جهة، وبرفع سعر المنصّة لتصبح قادرة على تلقّي جزء من دولارات هذه السوق من جهة أخرى. لكنّ هذا المسار سيحتاج إلى أشهر ليحصل تدريجياً، ولتصبح المنصّة لاحقاً أداة التداول الرئيسيّة للدولار بدل السوق السوداء. هذه العمليّة، بالتحديد، هي ما يُعرَف بعمليّة تعويم سعر الصرف وتوحيده، التي سيطالب بها صندوق النقد شرطاً للموافقة على أيّ برنامج قرض للبنان. ومن المرجّح أن تتكامل رؤية مصرف لبنان لهذا الملفّ لاحقاً مع خطّة التعافي الماليّة بعد أن تعدّلها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. 

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…