كان النائب هاكوب بقرادونيان من النواب القلائل (ربّما الوحيد) الذين جَرُؤوا على النزول إلى الأرض يوم انفجار مرفأ بيروت المشؤوم في 4 آب 2020. وقد لقي ترحاباً من الناس، الأرمن وسواهم، على عكس كثر من النواب آثروا الانزواء خشية غضب الناس. “كان الناس يرحّبون بي لأنّني نزلت بينهم بلا كاميرا، كما قالوا لي”.
لم يسمح النائب بقرادونيان لهذه الكارثة أن تخسّره “ثروته”. وعلى الرغم من تضرّر مكاتبه ومنزله، عاد ولملم كتبه الـ25 ألفاً، فهو يحبّ جمع الكتب وقراءتها، ولديه مجلّدات من الصحف اللبنانية منذ عام 1975 حتى اليوم، ومن بينها صحف “السفير” و”المستقبل” و”النهار العربي والدّولي” و”الحوادث” و”نداء الوطن” القديمة والجديدة و”الأخبار” و”الجمهورية” و”الديار”. “أجمعهم للتاريخ، وسأصل إلى مرحلة ليس لديّ مكان، لكنّني سأتركها للطائفة أو لمكتبة عامّة، وولداي يهتمّان لكونهما يدرسان العلوم السياسية”.
ومن هواياته أيضاً جمع الطوابع والبطاقات البريدية والبيوت الصغيرة من الأسفار. “وأحبّ الزراعة، ولديّ بيت صغير ورثته عن والدي في بحرصاف، حيث أشتغل في الجنينة، وأصنع خلّ العنب والتفّاح”.
بقرادونيان: “لم نتمكّن من الحصول على حقوقنا كطائفة إلا بعد الوصول إلى اتفاق الطائف. في الطائف تمّ الاعتراف بحقّ الطائفة الأرمنيّة كإحدى الطوائف السبع الأساسية في لبنان”
بالعودة إلى انفجار مرفأ بيروت، فقد أدّى إلى هجرة أرمنية أكيدة.
بدأت الهجرة الأولى بين عاميْ 1975 و1976، والثانية في حرب التحرير والإلغاء في عاميْ 1989 و1990، والثالثة في الظرف الاقتصادي الذي نمرّ به حالياً، ثمّ بعد تفجير مرفأ بيروت. الطاشناق هو الحزب الوحيد الذي اتّخذ قراراً في عام 1979 بفصل كلّ حزبي وطرده إذا هاجر، “إيماناً منّا بأنّ لبنان ليس فندقاً. اعتبر حزبنا لبنان في زمن الحرب جبهةً، وكلّ حزبي تابع للطاشناق هو جنديّ للدفاع عن لبنان. وعندما يترك الجندي الخندق، يُعتبر خائناً في قوانين الجيوش. بالنسبة إلينا فإنّ ترك لبنان في تلك الفترة كان بمنزلة خيانة. وقد تمّ طرد الأمين العام للحزب في فترة من المراحل لاختياره الهجرة، وكنّا نمنع الالتحاق بالحزب في خارج لبنان، حتى إنّ مَن يختار الهجرة لم يكن يملك القدرة على أن يتوظّف في جمعيّات أو مدارس كان الحزب يمون عليها، وهذا موقف مبدئي. بالتأكيد لا يمكن أن نقوم به اليوم بسبب الأوضاع الإنسانية”.
تغيّر الوضع اليوم جذرياً. فقد تضرّرت كلّ المناطق التي يتركّز فيها الأرمن، سواء في الأشرفية أو المدوّر أو مار مخايل أو الجمّيزة أو الجعيتاوي أو الأشرفية أو كرم الزيتون. لكنّ الضرر في برج حمّود كان ضخماً. صحيح أنّه لم يقع ضحايا كما في بيروت، حيث سقط 14 أرمنياً، لكنّ الدمار كان هائلاً حتى إنّ النائب بقرادونيان طالب رئيس مجلس الوزراء بإعلان برج حمّود منطقة منكوبة. لحظة الانفجار، أي عند الساعة السادسة وسبع دقائق، كان بقرادونيان في اجتماع مع الرئيس سعد الحريري في بيت الوسط، “كنت على وشك المغادرة، لكنّه طلب مني البقاء قليلاً، وعند الساعة السادسة و7 دقائق دوّى انفجار ضخم وسقط فوقنا كلّ الأثاث والأبواب والزجاج، وانبطحنا أنا والرئيس الحريري أرضاً. ولمّا عدت إلى مكتبي في برج حمّود لم أعثر على كرسي أجلس عليه في البناية كلّها، ودُمِّرت الأبنية كلّها والكنائس والمدارس”.
وقع الانفجار يوم الاثنين، وبعدما عالج النائب بقرادونيان أموره الخاصة، نزل إلى الأرض يوم الأربعاء، وكان البطريرك آرام الأول عند الساعة 7 ونصف في اليوم نفسه في برج حمود. “بعد 4 أيام اجتمعنا مع البطريرك الذي وجّه دعوة إلى أرمن العالم جميعهم، وأسّسنا كأحزاب وطوائف وجمعيات خيرية لجنة إعادة إعمار وتأهيل. تلقّينا تبرّعات من الخارج، من أميركا وأستراليا وأرمينيا وكاراباخ ودول العالم قاطبة، وساعدنا الناس على مراحل ثلاث، بدءاً بترميم المنازل، فضلاً عن تقديم إعانات طبية ومستوصفات وأغذية وتبرّعات ومساعدة الناس غير القادرين على الخروج من منازلهم… انتهت المرحلة الثالثة مع الذكرى الأولى، وتمكّنّا من ترميم ألفي منزل، وقد كان ترميم البيوت أولويّة قبل الكنائس وقبل المؤسسات الحزبية. توسّطنا أيضاً مع شخصيات، وحصلنا على مساعدة مالية لذوي الشهداء بلغت قرابة 9 آلاف دولار لكلّ عائلة من دون تفريق بين أرمني وآخر أو على أساس الانتماء الحزبي”.
أسّس حزب “الطاشناق” خليّة مساعدة نفسية لذوي الضحايا ومَن أصيبوا بالتروما، وأعلن كلّ المدارس التابعة للمطرانية مجّانيّة، وتمكّن الحزب من توفير معاشات المعلمين والموظّفين. “لكنّ الوضع هو أشدّ صعوبة اليوم”، يقول بقرادونيان.
سبّب انفجار المرفأ معطوفاً على الوضع الاقتصادي هجرةً أرمنيةً: “يجب أن لا ننسى أنّ غالبيّة ناسنا هم عمّال وموظّفون، حتى رجال الأعمال بدأوا يفكّرون في العمل خارجاً لدعم مصالحهم في البلد. غادر بعض الأرمن إلى أرمينيا، وقد بلغ عددهم قرابة 200 عائلة، لكنّنا لا نعتبرهم مهاجرين لأنّهم يعودون، وقد عاد بعضهم، لكنّ هجرة الشباب موجودة كما في كلّ الطوائف”.
من المبكر الحديث اليوم عن التحالفات الانتخابية، فهي ليست تحالفات سياسية بالضرورة. المهمّ أن نتمكّن من إيصال نوّابنا إلى المجلس النيابي
أطلقت بعض وسائل الإعلام على بعض النواب تسمية “نواب النيترات”، وشملوا بقرادونيان من غير وجه حقّ. “سبق أن أعلنت أنّه في الأصل لا حاجة للحصانات بالمطلق، وكنت قد قلت إنّ نقطة دم شهيد أغلى من كل الدساتير وكل القوانين، لأنّ الدستور يعمل لمصلحة الشعب وخدمته، وليس على الشعب أن يرضخ للدستور إذا كان يخالف مصلحته. أوّلاً، أنا لم أوقّع على العريضة التي ترفض رفع الحصانات، وأعلنّا باسمي وباسم الحزب والكتلة أنّنا سننزل إلى المجلس عندما يوضع البند على جدول الأعمال، وأنّنا سنرفع الحصانات مع أنّني عضو في هيئة محاكمة الرؤساء والوزراء. كان زجّ اسمي في الإعلام كذبةً. مع الإشارة إلى أنّه في كلّ دول العالم لا يعرف النائب أو الوزير ماذا يوجد في المرافئ في بلده. هل يعرف النائب والوزير في فرنسا ما هي البضائع الموجودة في مرفأ مرسيليا مثلاً؟ فليسائلوا المسؤولين. نحن نضيع البوصلة، فلا نفتّش عمّن فجّر النيترات. نحن الحزب وكتلة نواب الأرمن، وأنا شخصياً، مع رفع الحصانات، لكن إذا مش حابين يسمعوا فهي مشكلتهم”.
طال الظلم الطائفي الأرمن اللبنانيين، ولم ينصفهم إلا اتفاق الطائف الذي صار دستور البلاد في عام 1989.
“لم نتمكّن من الحصول على حقوقنا كطائفة إلا بعد الوصول إلى اتفاق الطائف. في الطائف تمّ الاعتراف بحقّ الطائفة الأرمنيّة كإحدى الطوائف السبع الأساسية في لبنان. وهذا ليس مذكوراً خطّيّاً، لكنّه مذكور عرفاً لأنّه من يومها حتى اليوم لم يتمّ تشكيل أيّة حكومة مؤلّفة من أقلّ من 14 وزيراً. لذلك نَعجَب حين نسمع بعض الطروحات عن 6 و6 مكرّر، أو عن حكومة مصغّرة من 4 أو 6 وزراء، كما كان في زمن حسين العويني وفؤاد شهاب وشارل حلو. إنّنا نرفض ذلك كلّياً”.
إنّ حزب الطاشناق موجود في لبنان منذ عام 1904، حتى إنّه ساهم في حركة التحرّر العربي، فنقل الذخائر والأسلحة ودرَّب المقاتلين في أثناء الحرب العالمية الأولى. خاض الحزب معارك انتخابية منذ عام 1927 حتّى الاستقلال اللبناني الذي دعمه الطاشناق في عام 1943 في مواجهة الانتداب الفرنسي. ومنذ عام 1943 إلى اتفاق الطائف، كان حزب الطاشناق يُصنّف بأنّه مع رئاسة الجمهورية في لبنان. “هذا صحيح لأنّ الشرعية كانت تتمثّل في رئاسة الجمهورية بغضّ النظر عن هويّة هذا الرئيس”. وقف الطاشناق إلى جانب الشرعية في حوادث عام 1958. وللأسف، فقد أثّر ذلك علينا لأنّ الأحزاب الأرمنية الأخرى والأرمن الشيوعيّين وقفوا مع كمال جنبلاط وحركة صائب سلام ورشيد كرامي نظراً إلى الحرب الباردة”.
زادت مشاركة الطاشناق والأرمن عموماً في الحياة السياسية بعد الطائف. “شاركنا كوزراء ونواب في كلّ الحكومات والمجالس النيابية، وأقمنا علاقة وطيدة مع جميع الأطراف السياسية. وإذا اختلفنا معهم نختلف باحترام. ولم تؤدِّ خلافاتنا مع الطوائف الأخرى إلى خلافات عميقة أو عداوات”.
حتى في الحرب، اتّخذ الطاشناق خياراً لم يُفهَم حينها. “هو خيار الحياد الملتزم وليس الإيجابي. فنحن دققنا ناقوس الخطر قبل عام 1975، وقلنا إنّنا ذاهبون إلى حرب. ونحن الشعب الأرمني خبرنا الحرب. وقد خسرنا وطناً، وخسرنا دولة، ونعرف أنّ الحرب بين الإخوة لا تؤدّي إلا إلى الخراب. وهذا الذي حصل. وقد تعرّض الأرمن للاضطهاد في زمن الحرب في المناطق اللبنانية كلّها”.
قبل الحرب كان الوجود الأرمني على النحو التالي: 35 ألف أرمني في المنطقة الغربية. “أذكر أنّني بينما كنت أتمشّى من بيتي في رياض الصلح إلى شارع الحمرا، كنت أسمع الكثير من الناس يتحدّثون باللغة الأرمنية. في منطقة رياض الصلح وحدها كانت توجد 4 مدارس وجامعة هايكازيان ومؤسسات تربوية واجتماعية ورياضية كانت أساس الطائفة في تلك المنطقة”. بين عاميْ 1975 و1976، بسبب الحرب وموجات التهجير، خرج الأرمن من تلك المنطقة، وكانوا موزّعين في تلك المناطق من بيروت، مثل زقاق البلاط والحمرا وسواهما… وفي المقابل، حدث تمدُّد. فالأرمن موجودون اليوم في المدوّر والصيفي ومار مخايل والرميل وبرج حمود والزلقا وجلّ الديب وأنطلياس، طلوعاً إلى بكفيا وجونيه وجبيل والبترون وطرابلس وزحلة ورياق وعنجر. هذا هو الامتداد الأرمني اليوم.
ليس التحالف بين حزب “الطاشناق” و”التيار الوطني الحر” بلا شروط. فمن وجهة نظر الطاشناق، هو حلف استراتيجي، لكنّ التمايز بين الطرفين موجود، وقد ظهر في محطات عدّة، منها تصويت الطاشناق مثلاً على تكليف سعد الحريري، وعدم موافقته على تكليف نجيب ميقاتي. صحيح أنّ “كتلة نواب الأرمن” هي جزء من “تكتّل لبنان القوي”، إلا أنّ “هذا التمايز نحافظ عليه وهم يحترمونه، لكنّه لا يؤدّي إلى اختلافات عميقة”.
فكيف سيكون هذا التحالف في الانتخابات النيابية المقبلة في أيار 2022؟
يقول النائب بقرادونيان: “من المبكر الحديث اليوم عن التحالفات الانتخابية، فهي ليست تحالفات سياسية بالضرورة. المهمّ أن نتمكّن من إيصال نوّابنا إلى المجلس النيابي”.
للتذكير فإنّ لحزب “الطاشناق” اليوم 3 نواب، هم: هاكوب بقرادونيان، وهاكوب ترزيان، وألكسندر ماتوسيان. أمّا بقية النواب الأرمن فهُمْ: نائب أرمني في زحلة هو إيدي ديمرجيان، وجان طالوزيان وبولا يعقوبيان (استقالت) في الأشرفية.
لقد تراجع الحجم الاقتصادي للأرمن، على الرغم من أنّ الأرمن كانوا أساس الحِرَفيّة في لبنان من التصوير والألبسة إلى صناعة الجلديّات، والمصارف، والصيرفة، والصناعات والمال، كما يقول المؤرّخون. ولفترة زمنية طويلة اشتهروا بالطبّ، فكان من الأرمن أهمّ الأطباء في كبريات المستشفيات اللبنانية.
إقرأ أيضاً: هاكوب بقرادونيان (1/2): أرى وصاية دوليّة قادمة على لبنان
أثار بقرادونيان أخيراً جدلاً بدعوته إلى استقالة رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان إثر حرب ناغورنو كاراباخ مع أذربيجان. يقول: “أوّلاً أنا لا أتدخّل بالشؤون الأرمنيّة، فأنا لبناني من أصل أرمنيّ. بالنسبة إليّ، تسري أرمينيا في دمي وعروقي، وأكيدٌ أنّ ما يحصل في أرمينيا يؤثّر علينا. ومثلما أطالب تركيا بالاعتراف بالإبادة والتعويض، فإنّني أحافظ أيضاً على وحدة أرمينيا وعلى حقوق الشعب الأرمني، انطلاقاً من إيماننا بحقوق الإنسان وحقوق الشعوب بتقرير المصير. أنا أقف دوماً إلى جانب حقوق الشعب الفلسطيني، فلِمَ لا يعاتبني أحد ويسألني لماذا؟ وحين أقف ضد التدخّل التركي في العراق وسوريا، لِمَ لا يسألني أحد؟. لقد دعوت إلى استقالة باشينيان لأنّه هو مَن سلّم 70 في المئة من الأراضي المحرّرة في ناغورنو كاراباخ إلى أذربيجان عبر اتفاق ذلّ واستسلام. فما فعلته أنّني ضممت صوتي إلى أصوات الملايين من الأرمن في كل الانتشار الأرمني في الخارج، لأنّنا دفعنا ثمن هذه الأرض دماً، ولم تتمكّن الحكومة الأرمنيّة ورئيسها لأسباب يعرفونها من الحفاظ عليها. ومن حقّي كأرمنيّ أن أطالب بهذه الاستقالة”.