جسّد اللبنانيون الأرمن منذ قدومهم إلى لبنان في القرن التاسع عشر أرقى صور النضال والتضحية والبطولة والعصاميّة، وعاشوا الحوادث اللبنانية كلّها، وبنوا مجتمعاً متماسكاً بنكهة أرمينيا، فارضين أنفسهم في المعادلة اللبنانية، وخصوصاً بعد اتفاق الطائف.
لا يمكن فصل السيرة الذاتية لرئيس كتلة نواب حزب الطاشناق والأمين العام للحزب الأرمني الأقدم هاكوب بقرادونيان عن “حزب الطاشناق”، ولا يمكن فرز تاريخ هذا الحزب عن تاريخ أرمينيا ومعاناتها بسبب الإبادة التي تعرّض لها الشعب الأرمني على يد العثمانيين، ولا يمكن فصل سيرة الطرفين عن المعادلات اللبنانية وتفرّعاتها الدولية.
منذ فترة، أثار تصريح للنائب بقرادونيان عن إمكان خضوع لبنان لوصاية دولية تساؤلات في شأن هذا الموضوع نظراً إلى العلاقات الوطيدة لهذا الحزب “الاشتراكي”، كما سنكتشف في هذه السيرة، مع الغرب والشرق معاً. قبل الخوض في التاريخ، ننطلق من الحاضر، فيقول بقرادونيان لـ”أساس”: “ربّما جاء كلامي صريحاً جداً، فنحن لم نتمكّن عبر تاريخنا من الانعتاق من الوصايات الخارجية، منذ حكم العثمانيين مروراً بالاستقلال في عام 1943 حتى اليوم. غالبا ما كانت القضايا الداخلية تُحَلّ بشكل من الأشكال عبر تدخّلات خارجية. في عام 1952 نام حميد فرنجية على أنّه سيكون رئيساً للجمهورية، ولكن حلّ محلّه في اليوم التالي كميل شمعون بتدخّل مباشر من إنكلترا”.
بقرادونيان لـ”أساس”: “لقد توصّلوا أخيراً إلى تركيع الشعب اللبناني، لذا المواطن اللبناني مستعدّ اليوم لأيّ تنازل سياسي قومي إيديولوجي في مقابل “تنكة” بنزين و”شويّة كهربا”، وهذه حقوق طبيعية. لم يتمكّنوا من تركيعنا بالحرب ولا بالسلاح، فركّعونا بالسلم والاقتصاد
يستند كلام بقرادونيان اليوم إلى واقع يفيد بأنّ دول العالم تتعامل مع لبنان “كقطعة لتقاسم النفوذ، وبشهيّة أن تقضم كلّ جهة “شقفة” من هذا البلد”.
هكذا بالحرف. يشير النائب بقرادونيان موضحاً: “أنا لا أحكي عن احتلال ولا عن وجود عسكري، وهذا احتمال وارد، لكنّني أتخوّف جدّيّاً من وجود عسكري خارجي، وخصوصاً حين نسمع الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان يتحدّث عن “بطولاته” في المنطقة، وأنّه يريد حماية الشعب اللبناني، وحين نرصد تحرّكات السفير التركي في المنطقة من الشمال إلى الجنوب فالبقاع. ونرى سفراء دول أخرى من الشرق والغرب تتحدث عن برامجها الإصلاحية والإعمارية للبنان، حيث “نفس” الوصاية موجود. إذ لا تكون الوصاية دوماً بالعسكر، ولا تحقيق المصالح السياسية عبر جنود على الأرض، إلا أنّ لكلّ الدول مصالح للتدخّل في شؤوننا”.
يقدّم النائب بقرادونيان برهاناً على ما يقوله: “في دول العالم قاطبة، يُعتبر الغاز والنفط نعمة، لكنّ خوفي أن تتحوّل هذه النعمة إلى نقمة في لبنان لأنّه لا توجد مصلحة للجوار ولا لدول العالم، أي الغرب، ولا لدول الخليج، في تنقيب لبنان عن النفط واستخراجه ليتخلّص من مديونيّته، لأنّ هذه المديونيّة تشكّل عذراً لهذه الدول للسير بمخطّطاتها في التوطين وإبقاء النازحين السوريين وتركيع الشعب اللبناني”. ويردف بمرارة واضحة: “لقد توصّلوا أخيراً إلى تركيع الشعب اللبناني، لذا المواطن اللبناني مستعدّ اليوم لأيّ تنازل سياسي قومي إيديولوجي في مقابل “تنكة” بنزين و”شويّة كهربا”، وهذه حقوق طبيعية. لم يتمكّنوا من تركيعنا بالحرب ولا بالسلاح، فركّعونا بالسلم والاقتصاد، وهذه خلفيّة كلامي عن أنّني أرى وصاية دولية غير مباشرة”.
ولد هاكوب بقرادونيان في 24 أيار من عام 1956 في منزل يقع في ساحة رياض الصلح، وقيده في زقاق البلاط. والده هاكوب ووالدته أناهيد. تهجّرت عائلة والده من ديار بكر إثر المجازر ضد الأرمن، ووصل إلى لبنان في عام 1921، وسقط جدّه بوغوص وعائلته كلّها ضحايا الإبادة التركية في عام 1915. “لم يبق لنا أقارب لجهة والدي، راحوا كلهم في الإبادة”. والدته أناهيد من مواليد بيروت، وقد أتى أهلها أيضاً من ديار بكر في عام 1921. لديه شقيقتان. عاش طفولته في الستينيّات في منطقة شعبية مزدهرة، “كان بيتنا يقع في حي مجلس شورى الدولة، وهي البناية الوحيدة المتبقّية من تلك الحقبة. والبناية الثانية هي الإسكوا. تربّيت في منطقة لم نكن نعرف فيها المسلم من المسيحي، وكنّا نشعر بأنّ ساحة رياض الصلح تمثّل نبض الحياة في بيروت، إضافة إلى ساحتي النجمة والبرج والأسواق القديمة وسوق السمك وسوق الأرمن. لقد شكّلت هذه الساحات كلّها لبنان بالنسبة إليّ. كنّا نصيّف ولمّا نزل في بحرصاف، الضيعة المحاذية لبكفيا. فترعرت بين منطقة عرفنا لاحقاً أنّها مسلمة وبين مصيف مسيحي”.
درس في مدرسة خان أميريان، وهي أول مدرسة أرمنية في لبنان، وقد أُسِّست في زمن العثمانيين في عام 1902. كانت تُسمّى مدرسة القديس سان نيشان، وتقع إلى جوار الكنيسة قرب السراي الحكومي. وهي أول كنيسة أرثوذكسية في بيروت منذ عام 1860. درس وتخرّج في هذه المدرسة ونال الشهادة في عام 1975، وصار مديرها في عام 1980، ولم يكن قد تجاوز الـ24 من العمر، إثر نيله شهادة في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في أوج الحرب.
أثّرت النشأة في منطقة رياض الصلح على هاكوب الطفل والمراهق لكونها كانت نبض الحياة السياسية. “انطلقت التظاهرات كلّها من هذه المنطقة الطالبية واليسارية والعمّالية والقومية العربية، وكنت أرى نوّاباً يذهبون إلى المجلس النيابي سيراً على الأقدام”.
يستند كلام بقرادونيان اليوم إلى واقع يفيد بأنّ دول العالم تتعامل مع لبنان كقطعة لتقاسم النفوذ، وبشهيّة أن تقضم كلّ جهة “شقفة” من هذا البلد
أثّر تمثال رياض الصلح في هاكوب الطفل كثيراً، “كنت أنظر إليه صبيحة كلّ يوم من نافذة مطبخ بيتنا أثناء تناول الفطور، وأسأل الوالدة: “مَن هو هذا الشخص لينصبوا له تمثالاً؟”. بعدما كبرت في السّن عرفت أنّ رياض الصلح هو من الشخصيات الميثاقية، وقد قرأت عنه الكثير لاحقاً، فترك أثراً في تربيتي كمواطن لبناني، ثمّ كسياسي أؤمن بالتعايش”. كانت منطقة رياض الصلح، حيث نشأ، منطقة تعايش، “علمت لاحقاً أنّ الحي الذي أعيش فيه كان يتقاسمه مسلمون ومسيحيون، ولم نكن نعرف الفارق بين الشيعي والسنّي”. تركت عائلته المنطقة في بداية الحرب، وتوجّهت إلى الجبل في أواسط أيار. وأوّل قذيفة وقعت في المنطقة طالت بيت العائلة في عام 1975، فـ”تضرّر المنزل، لكنّنا بقينا نتردّد إليه بسبب دراستي في الجامعة الأميركية”.
ارتاد هاكوب أيضاً منطقة الجمّيزة، حيث كان والده يمتلك دكّاناً. “اختار والدي في طفولته أن يكون ماسح أحذية، ولم يكن قد تعدّى الـ12 من العمر”. صحيح أنّ جدّ هاكوب كان مدير مدرسة في ديار بكر، لكنّ التهجير بسبب الحرب أدّى إلى أن تصبح العائلة فقيرة فقراً مدقعاً مع انعدام القدرة على تعليم الأولاد. راح والده يقصد منطقة مرفأ بيروت حاملاً صندوق البويا على أساس أنّه لا يوجد أرمن هناك يعرفون عائلته لأنّه كان خجولاً من عمله. وفي أحد الأيام، قام أحد اللبنانيين برفس صندوق البويا متّهماً الطفل الصغير بأنّه ينتمي إلى الأرمن “الذين يأكلون أرزاق اللبنانيين. ومنذ ذلك الحين قرّر والدي ترك “المصلحة”، وفتح محلّاً لتصليح بوابير الغاز والكاز و”اللوكس”، ثمّ انتقل إلى بيع الأدوات الكنسية، وكان مؤمناً جداً ويخدم الكنيسة”.
تركت منطقة رياض الصلح أثراً سياسياً وإيديولوجياً في هاكوب بقرادونيان، “فقد خلّفت فيّ إيديولوجيا الانتفاضة. أنا أقول إنّي منتفض بشخصي. أنا من الأشخاص الذين يقومون بالنقد الذاتي في أقوالي أو مسيرتي، أي أنّ نَفَس الانتقاد موجود لديّ”.
قبل الجامعة الأميركية، أثّرت بهاكوب ثورة الطلاب في عام 1968 في فرنسا، وتشي غيفارا، والحركات التحرّرية ضد الاستعمار، “كل هذه الأمور أثّرت فيّ، وكنت في سنّ الـ13 حين انتسبت إلى حزب الطاشناق”.
كان طالباً في الـ13 من العمر، وقد مرّت الذكرى الخمسون للإبادة، فالتحق بفرع الأشبال، وبقي في الحزب، وعمل في مصلحة الشباب في عام 1974، ثمّ في مصلحة طلاب زفاريان في عام 1976.
يعتبر حزب الطاشناق أقدم حزب في لبنان. أُسِّست أول خليّة له في عام 1902. في عام 1904 جاء أحد مؤسّسي حزب الطاشناق سيمون زافاريان إلى لبنان، وجمع طلاباً من الجامعتين الأميركية واليسوعية. وكان هؤلاء يأتون من ديار بكر وإزمير وعينتاب ومناطق أخرى من تركيا للدراسة في لبنان. وأسّس “جمعية طلاب” حملت اسمه لاحقاً: “جمعية طلاب زفاريان”. لا تزال هذه الجمعية قائمة، وهي تعمل إلى اليوم. “نحن لدينا حزب في لبنان يعود إلى زمن العثمانيين”. ويقول بقرادونيان إنّ “أول جريدة أرمنية أُسِّست في لبنان في عام 1927، واسمها “أزتاك”. وهي الأقدم بين صحف لبنان، ولا تزال تصدر حتى اليوم”.
اُنتُخب هاكوب بقرادونيان نائباً في عام 2005، وأميناً عاماً للحزب في عام 2015، وهو في الأمانة العامّة لولاية رابعة تجدّدت في حزيران الفائت.
إقرأ أيضاً: حمادة (2/2): لا أمل للبنان بوجود عون وباسيل
يعود بشغف إلى تاريخ الحزب الذي يرأسه: أُسِّس الحزب في عام 1890، في جورجيا. يعني اسمه “الاتحاد الثوري الأرمني”. وقد سُمّينا في لبنان بالطاشناق. أُطلِقت عليه تسمية الاتحاد لأنّه في القرن التاسع عشر نشأت فرق ثورية ضدّ الأتراك، ثمّ جاء مؤسّسو الحزب ووحّدوا جميع هذه الخلايا، وسمّوها “اتحاد الثوار”. “نحن حزب اشتراكي، وهذا ما لا يعرفه العامّة، إذ يعتبروننا يمينيّين، وهذا ليس صحيحاً. نحن جزء من الاشتراكية العالمية، ونائب رئيس الاشتراكية الأممية أرمني”.
في عام 1918 إثر الإبادة، خاض “الطاشناق” معارك في أرمينيا التي أعلنت استقلالها. في عام 1920، دخل البلاشفة أرمينيا، فاضطرّ محازبو الطاشناق إلى الخروج كي لا يحصل سفك دماء. “لأنّنا كنّا ضد النظام البولشفي الشيوعي، والحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفياتي. وصاروا يعتبروننا يمينيّين لأنّنا كنّا ضدّ الاتحاد السوفياتي. لكنّنا لسنا يمينيّين. وأنا شخصياً اشتراكي بالمنطق والروح والفكر، ومع العمّال وحقوقهم ومع الشعوب المظلومة”.