يكاد المرء لا يصدّق ما يقرأ حين يتحدّث جبران باسيل عن “كل لحظة عتمة”! هل يعرف الرجل، الذي يمنع تشكيل حكومة منذ عام كامل، لـ”كل لحظة” قيمة؟ أليس هو مَن دفع رئيسين مكلّفين إلى الاعتذار، وربّما يلحق بهما الثالث؟
شيء عجيب في تركيبة عقل باسيل. يشخِّص الرجل مشكلة العتمة بأنّها “برقبة النواب يلّي كذّبوا على الناس وحرموا كهرباء لبنان شراء المحروقات”، وبأنّ “المصرف المركزي يرفض صرف دولارات من أموال كهرباء لبنان لشراء قطع الغيار”، ليختم مستنتجاً: “اعرفوا يا لبنانيي مين عم يعتّم عليكم”. ليس له شأن بالعتمة إذاً، ولا هو مسؤول عنها.
تسوِّق أجواء بعبدا لمقولة استخدام الاحتياط في أضيق الحدود”، ومؤدّاها الضمنيّ أنّ المسّ بالاحتياط مبرَّر في مدى زمني ضيّق، ريثما تتوافر حلول أخرى
لنحيّد جانباً مسؤولية التيار العوني عن تعطيل مشاريع محطّات التغويز ومعامل الكهرباء، ولا سيّما عرض سيمنز الشهير، من أجل دعاوى طائفية ومصالح سياسية مزرية. ما الحل الذي يراه الرئيس الفعلي للبلاد؟ ببساطة، تبديد ملياريْ دولار أخرى في الأشهر المتبقّية من عمر العهد لشراء الفيول لـ”كهرباء لبنان”، لتلحق بـ22 مليار دولار من السلفات، التي تصل تكلفتها مع فوائدها على ميزانية الدولة إلى 44 مليار دولار. لا يملك الرجل حلّاً آخر. يبرّر باسيل هذا الطرح البائس بمقارنة مع “تكلفة الفرصة البديلة”، باعتبار أنّ ساعة الكهرباء التي تنتجها المولّدات الخاصة تكلّف احتياط الدولار 32% أكثر منها في معامل كهرباء لبنان.
تدليس كبير. فالمقارنة لا تستقيم لأنّ سلفات الخزينة لـ”كهرباء لبنان” تؤخذ من خزينة الدولة، وتُسجّلُ عجزاً في الميزانية العامّة، وأمّا المازوت المستورَد للمولّدات فلا شأن لميزانية الدولة به، ولو أنّ مصرف لبنان يوفّر العملة الصعبة للاستيراد في الحالين (تحتاج النسبة التي أوردها باسيل إلى تدقيق، لأنّ مصرف لبنان لا يغطّي كامل اعتمادات استيراد المازوت بسعر الصرف الرسمي).
على أنّ أعجب ما في مسوِّغات باسيل قوله “إنّ كل ساعة مولِّد خاصّ تكلِّف المواطن أكثر بعشرين مرّة من ساعة كهرباء الدولة”. وهذا الفارق عائد إلى التسعيرة المدعومة لكهرباء الدولة، وهي تسعيرة لا يفوّت باسيل وفريقه فرصةً لتحميل رفيق الحريري في قبره المسؤولية عنها، لأنّه كان رئيس الحكومة التي أقرّتها عام 1994! فكيف أضحى باسيل متحمّساً لبيع المزيد والمزيد من الكهرباء للمواطنين بسعر لا يساوي أكثر من 5% من تسعيرة المولّدات؟ هل هي ازدواجية أم نفاق؟
وما يسري على الكهرباء يسري على كلّ الملفّات الأخرى.
العهد مستعدّ لتجويع الشعب، حرفيّاً، وإغراقه في العتمة وشلّ التعليم وتهجير عشرات آلاف الشباب حتى يحصل على ما يُشبع جشعه الحكومي
منذ بداية الفوضى الراهنة لم يُقدِّم رئيس الجمهورية وصهره، وهما اللذان يديران البلد منذ استقالة حكومة سعد الحريري، سوى “روشتة” واحدة لكلّ الأزمات هي استخدام احتياطات مصرف لبنان. وفي هذا السبيل مارسا ضغوطاً لا حصر لها على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
كلّ الأزمات يعالجها العهد بنمط واحد، من جنون الدولار إلى المحروقات فالأدوية وحليب الأطفال: اجتماع في قصر بعبدا يستدعي إليه حاكم مصرف لبنان ليضغط عليه لاستخدام الاحتياطات. وحين لم يبقَ إلا الاحتياط الإلزامي كان لدى العهد “جرأة” طلب المسّ به تحت ستار ثنائيّات الضرورة المسوِّغة: إمّا الدواء وإمّا الاحتياط. إمّا العتمة وإمّا المسّ بالاحتياط. إمّا الجوع وإمّا المسّ بالاحتياط.
حسناً. ما الأفق الذي يطرحه فخامة باسيل لاستخدام الاحتياط؟
تسوِّق أجواء بعبدا لمقولة “استخدام الاحتياط في أضيق الحدود”، ومؤدّاها الضمنيّ أنّ المسّ بالاحتياط مبرَّر في مدى زمني ضيّق، ريثما تتوافر حلول أخرى. والحلول الأخرى معروفة وخطواتها محدّدة، تبدأ بتشكيل حكومة، ثمّ التوجّه إلى صندوق النقد الدولي والجهات المانحة للحصول على تمويل مرحليّ للحساب الجاري وحساب الميزانية.
القصّة كلّها في “الوقت” إذاً، فـ”كلّ لحظة” تمرّ في ظلّ حكم بعبدا المنفرد بلا حكومة يدفع ثمنها لبنان من الاحتياط الإلزامي. وتلك هي اللحظات التي يجدر بجبران باسيل أن يحسب مقدارها منذ سنة إلى الآن، قبل أن يتحدّث عن لحظات العتمة. ذاك هو فحوى البيان الختامي لمؤتمر باريس وكلّ التقارير والتوصيات من المؤسسات الدولية.
غير أنّ العهد لا يلتفت إلى كلّ هذا، فهو مستعدّ لتجويع الشعب، حرفيّاً، وإغراقه في العتمة وشلّ التعليم وتهجير عشرات آلاف الشباب حتى يحصل على ما يُشبع جشعه الحكومي.
بل يتصرّف كما لو أنّ دولارات مصرف لبنان يجب أن تكون في تصرّف الحاكم الأوحد للبلاد، لتمرّر الأشهر الخمسة عشر الباقية له في بعبدا بشيء من ماء الوجه، ولا يهمّ خراب روما بعد ذلك. هو نفسه النهج الذي جعل العهد في سنتيْه الأوليَيْن “يفلش” الإنفاق الحكومي بتهوّر لا سابق له في تاريخ الدول، من دون أن يلتفت إلى مَن كانوا يحذّرون من انهيار في الأفق من أمثال فؤاد السنيورة وغازي يوسف. وهو نفسه العهد الذي أَفهم رياض سلامة قبل الأزمة بأنّ عليه أن يُبقي وضع الليرة مستقرّاً بأيّ ثمن، لئلا تنفجر الأزمة في وجه الرئيس.
إقرأ أيضاً: باسيل يتجرّع كأس ميقاتي “الفاسد”؟
مَن يعتّم على اللبنانيين هو مَن يبدّد الاحتياط في كل لحظة عناداً حتى يسلِّم له الجميع بما يريد: الداخلية والعدل والطاقة وعشرة وزراء من أصل 24، من دون أن يعترف أنّه مشارك في الحكومة، ومن دون أن يمنحها الثقة. يجب على لبنان أن يسلّم لجبران باسيل بالسيطرة على الحكم والمعارضة معاً، وضمان فوزه بالانتخابات النيابية والرئاسية المقبلتين، ليسمح بوقف استنزاف الاحتياط.