الحزب غير قادر على حكم لبنان

مدة القراءة 6 د

“الحزب لا يريد أن يحكم لبنان”، كما أكّد السيّد حسن نصر الله في الخطاب، الذي ألقاه في ذكرى تحرير الجنوب في 25 أيّار عام 2008، إثر موقعة 7 أيّار واجتياح بيروت، ثمّ اتفاق الدوحة في 21 منه، بل إنّ “الحزب لا يريد أن يكون حَكَماً بين جبران باسيل وسعد الحريري”، كما أكّد أخيراً في خطاب الردّ على طلب باسيل الاستعانة به لحلّ أُحجية تشكيل حكومة المهمّة المستحيلة. فما دور الحزب فعلاً في النظام الحالي، وما هي مسؤوليّته إزاء الانهيار الشامل الموصِل إلى ما لا يقبل الحزب تحمُّله من أعباء ومخاطر؟ هو سؤال مركزيّ، بل سلسلة من الأسئلة التي باتت تؤرّق الشارع اليوم، وخاصة في البيئة الشعبية الحاضنة للحزب، وفي الساحة الشيعية عامة.

الحزب يحكم لبنان، وهو غير قادر على حكمه بالدرجة نفسها. هو يحكمه عبر حلفائه وأتباعه، خوفاً منه أو طمعاً به، أو بالاثنين معاً. فلولاه، لَما تشكّلت حكومات الوحدة الوطنية، مع الثلث المعطِّل، على نحوٍ منهجي، بعد اتفاق الدوحة عام 2008

لا يمكن أن يكون حزب ما حاكماً وغير مسؤول في الوقت نفسه. لكنّ الحزب يصرّ على أنّه غير حاكم للبنان، والحاصل أنّه غير مسؤول، من حيث هو كيان سياسي، عن السياسات ولا عن الأزمات، ولا عن الكوارث، لأنّه وإن شارك في البرلمان منذ عام 1992، وفي الحكومات منذ عام 2005، لكنّه طرفٌ من الأطراف السياسية فحسب. هو جزء من تحالف عريض، وهو ليس صاحب القرار الأوحد فيه، بل هو شريك في السلطة وفي القرار. ومسؤوليّته، تبعاً لذلك، هي بمقدار مشاركته.

هذا يتنافى طبعاً مع قول وفعل لم ينقطعا للحظة واحدة، ويؤكّدان أنّ مكمن السلطة الحقيقية ليس في السلطات الثلاث فقط، بل خارجها أيضاً. فليس قليل الشأن ولا الأثر ما يُدلي به الأمين العام للحزب، في خطاباته الدورية والموسمية والطارئة، من توجيهات عامّة، ومواقف حاسمة، ومن استعمال عبارات توحي بأنّه صاحب الأمر من دون منازع، من باب “يجب”، و”لا نقبل”، و”سيكون”. وإن كانت ليست بصراحة “إفعل” و”لا تفعل”. لكنّ التذكير الدائم بأنّ حزب الله هو القوّة اللبنانية الأقوى شعبياً وسياسياً وعسكرياً، ليس سوى لسان الحال، الذي لا يحتاج إلى دليل أو استنباط، فهو هو الحاكم، صاحب الشوكة، بحسب تعبير الفقهاء القدامى. وعندما يكون الحزب عنصراً مؤثّراً بشكل مباشر في الصراعات الإقليمية من العراق إلى اليمن مروراً بفلسطين، إضافةً إلى فعّالياته الأخرى في ميادين ومجالات متنوّعة، فمن باب أولى أن يكون دوره فاصلاً في لبنان، لأنّ لبنان هو المنطلَق، وهو الملاذ، وهو القاعدة الآمنة.

لقد بلغ الحزب ذروة قبوله في لبنان غداة الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000. وقيل يومها إنّ حركة التحرير في أيّ بلد تتسلّم السلطة، وتعتبر نفسها الأحقّ بذلك. لكن كان أمام الحزب عائقان أساسيّان: الأوّل ديني وأيديولوجي، إذ لا يعترف بشرعية الدولة، وأيّ دولة أخرى، وهو فيها لضرورة الحال، والثاني ديني وسياسي، حيت يعتبر أنّ مهمّته لم تنتهِ بعد، ولن تنقضي إلا بتحقيق أهداف الثورة الإسلامية، انطلاقاً من إيران.

من هذا الواقع المعقّد، جرت العادة، منذ ذلك الوقت، على التعايش بين الحزب ولبنان، أيام الرئيس رفيق الحريري، إلى أن اختلّت المعادلة باغتياله بعد خمس سنوات، وإخراج لبنان من الوصاية السورية، فبات على الحزب أن يملأ الفراغ بنفسه، من دون أن ينجح. فالطبقة السياسية عجزت عن التعامل مع ميراث الحريري، وسط توتّرات واستقطابات هائلة، ووصاية الحزب على لبنان، باستعمال سلاح التعطيل، لفرض إرادته، أثبتت فشلها الذريع، وهي التي أفضت أخيراً إلى انهيار الدولة والمجتمع.

الجميع في لبنان، من دون استثناء، ينتظر الكلمة الفصل من الحزب بشأن اعتذار سعد الحريري أو عدم اعتذاره، بل المستقبل الرئاسي لجبران باسيل رهن إشارة الحزب

الحزب يحكم لبنان، وهو غير قادر على حكمه بالدرجة نفسها. هو يحكمه عبر حلفائه وأتباعه، خوفاً منه أو طمعاً به، أو بالاثنين معاً. فلولاه، لَما تشكّلت حكومات الوحدة الوطنية، مع الثلث المعطِّل، على نحوٍ منهجي، بعد اتفاق الدوحة عام 2008. وبقراره، سقطت الحكومة للمرّة الأولى، باستقالة “وزير مَلَك”، عندما كان الرئيس سعد الحريري يلتقي الرئيس باراك أوباما في واشنطن عام 2011 (يومئذٍ كان جبران باسيل وزير الطاقة، وهو الذي تلا بيان الاستقالة من مقرّ إقامة العماد ميشال عون في الرابية، وكان فشل الحزب في تعطيل المحكمة الدولية السبب المباشر للاستقالة). ولولا الحزب لَما تعطّلت الانتخابات الرئاسية سنتين ونصف سنة من أجل وصول الرئيس ميشال عون إلى قصر بعبدا. ولولاه لَما تمدّدت ولاية البرلمان المنتخَب عام 2009 حتى عام 2018، إلى أن استقرّ الوضع العسكري في سوريا لمصلحة النظام. بل إنّ التسوية الرئاسية عام 2016 لم تكن لتنعقد بين ميشال عون وسعد الحريري لولا الحزب، فهو مَن قرّب عون وأبعد سليمان فرنجية، والاثنان حليفاه. والجميع في لبنان، من دون استثناء، ينتظر الكلمة الفصل من الحزب بشأن اعتذار سعد الحريري أو عدم اعتذاره، بل المستقبل الرئاسي لجبران باسيل رهن إشارة الحزب: هل يدعمه أم لا؟ وأثناء الانهيار المالي والاقتصادي، وضع الحزب قواعد وضوابط للخطط الإصلاحية، وأرسى لاءاته الشهيرة: لا مسّ بالموظفين أو برواتبهم وتعويضاتهم، ولا مسّ بالأملاك العامّة للدولة، ولا ضرائب أو رسوم جديدة على اللبنانيين. بهذه اللاءات لا يمكن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. أمّا البديل المطروح منه، فهو تحميل المصارف والمودعين أعباء كلّ الخسارات الناتجة عن سياسات حكومية كان الحزب شريكاً فيها، أو غاضّاً الطرف عنها، وهو ما ظهر في خطّة التعافي الاقتصادي التي أقرّتها حكومة حسان دياب العام الماضي، بما تتضمّنه من إعلان الإفلاس العامّ للدولة وللمصارف، والبدء من جديد. فجوبه برفض حلفائه الأقربين، حركة أمل خاصّةً، ومعها أطياف شتّى من القوى السياسية. أمّا الدعوة المفتوحة إلى الانضمام استراتيجياً إلى محور الشرق، فغير مقبولة حتماً، بسبب تبعاتها المكلفة.

السؤال المشروع، بعد كلّ هذا، هو هل تتعطّل الانتخابات النيابية والرئاسية العام المقبل (وليس فقط تشكيل حكومة المهمّة الإنقاذية) إلى أن تنعقد تسوية أخرى توصِل جبران باسيل إلى الرئاسة؟

إقرأ أيضاً: يا سيّد أنت وحدك المسؤول

إن لم يكن هذا يعني أنّ الحزب يحكم لبنان، فما هو تعريف الحكم؟ مع ذلك، لا يمكن الحزب أن يحكم لبنان رسميّاً لأسباب جوهريّة، ليس لأنّ أعداءه يرفضون ذلك. على العكس. هو يرفض أن يحتلّ موقعه الطبيعي كحزب سياسي ذي قاعدة شعبية، يتداول السلطة عبر انتخابات عادلة. لو قَبِل ما يقال إنّهم يعرضونه عليه، وقد يكون تلقّى عروضاً كثيرة، منها تعديل الدستور وإعطاء الشيعة ما يرونه حقّاً لهم في السلطة التنفيذية موازياً لِما هو للموارنة والسُنّة، إذاً لحكم لبنان برضى المجتمع الدولي. لكنّه لا يريد ولا يزال يرفض. الحكم بنظره مستنقعٌ وفخّ. وهو يساوي التدمير الأيديولوجي الذاتي، وفقدان التفوّق المعنوي.

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…