حديث المستشار السياسي لرئيس الوزراء العراقي مشرق عباس، مع قناة “الشرقية” قبل أيام، عن الدور السياسي الذي تقوم به حكومة الرئيس مصطفى الكاظمي على الصعيديْن الدولي والإقليمي، وعن كون “الانفتاح السياسي الدولي الذي حقّقته هذه الحكومة هو الأوّل منذ تأسيس العراق عام 1926″، لم يكن بعيداً عن التوجّه والاعتقاد اللذين عبّر عنهما الكاظمي نفسه في حديثه مع “أساس” عندما اعتبر أنّ “الانفتاح الذي يشهده العراق، وتحوّله إلى ساحة حوار دولية وإقليمية بين الأصدقاء والمتخاصمين، يعودان إلى وجوده على رأس السلطة التنفيذية في الدولة العراقية”.
لم تبدأ أزمة الحكم في العراق مع حراك الأول من تشرين الأول عام 2019، وما تلاه من استقالة عادل عبد المهدي من رئاسة الحكومة، بل بدأت بالتزامن مع الاستعدادات للانتخابات البرلمانية التي جرت في أواسط شهر أيار 2018
الهواجس، التي تشغل تفكير الكاظمي في المرحلة المقبلة، خصوصاً ما بعد الانتخابات البرلمانية المبكرة المقرّرة في العاشر من الشهر العاشر من العام الجاري، تدور حول مخاوفه من عدم قدرة أيّ رئيس للحكومة على الاستمرار بتطوير هذه العلاقات وهذا الدور وهذا الانفتاح الذي حقّقه ويحقّقه في العلاقات الإقليمية والدولية، وتحويل العراق إلى مكان لتلاقي القوى المختلفة والمتصارعة والصديقة. مع ما يعنيه ذلك من عودة العراق إلى لعب دور محوريّ في المنطقة والمعادلات الإقليمية، وإعادة وضعه على خارطة الدول المؤثّرة في المنطقة والشريكة في صناعة القرارين الإقليمي والدولي. وهي رؤية لا يراها واقعية رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي الذي لا يرى العراق قادراً على لعب دور فاعل في المنطقة في ظل الوضع السياسي الذي يعيش فيه، وأن جلّ ما يمكن أن يقوم به هو دور الوسيط أو المحطة بين اللاعبين الدوليين والإقليميين. هذا باعتبار أنّ موقع العراق لم ينضج بعد وبحاجة إلى المزيد من الوقت لينتقل إلى دور فاعل ومقرِّر ومؤثِّر.
ولعلّ المُصادِق على كلام العبادي هو ما حصل في مسألة الاستضافة العراقية للحوار الثنائي بين إيران والسعودية، وقرار نقل هذه المفاوضات إلى خارج العراق وإعطاء سلطنة عُمان هذا الدور، بعد تردّد الطرفين بين الانتقال إلى عاصمة عربية أو عاصمة أوروبية، خاصة أنّ قرار الانتقال إلى عُمان جاء بعدما وصلت الحوارات إلى مرحلة فضّل الطرفان إبعاد الآخرين عمّا يدور فيها من تفاصيل تمسّ التفاهمات حول المسائل الاستراتيجية بينهما.
لم تبدأ أزمة الحكم في العراق مع حراك الأول من تشرين الأول عام 2019، وما تلاه من استقالة عادل عبد المهدي من رئاسة الحكومة، بل بدأت بالتزامن مع الاستعدادات للانتخابات البرلمانية التي جرت في أواسط شهر أيار 2018. وقد تكون بدأت قبيل ذلك، أي ما بعد إعلان تحرير مدينة الموصل من سيطرة تنظيم داعش، عندما بدأت القوى السياسية العراقية البحث عن بديل لرئيس الوزراء العبادي المنتصر والقادر على تحقيق خرق في التركيبة السياسية إذا ما سُمِح له بترجمة هذا الانتصار العسكري في المجال السياسي، وهو ما يعني تقليصاً لدور هذه القوى ونفوذها.
وأمام الغموض الذي لفّ مواقف المكوّنات السياسية التي تحالفت مع العبادي في المعركة الانتخابية، وعدم تبنّيها الواضح والقاطع لعودته إلى رئاسة الوزراء بناءً على مصالحها الخاصة ومراعاتها لمصالح إقليمية، بدأ التداول بأسماء مرشّحين من خارج الكتل السياسية المشارِكة في الانتخابات والعملية السياسية، وجرت سلسلة لقاءات بعيداً عن الأضواء بين هذه الأسماء أو الشخصيات وبين الجهة التي تملك القدرة على فرض أو إيصال الذي تريده وينسجم مع مصالحها إلى الموقع الأول في السلطة العراقية.
مصادر قوة الكاظمي أنّه كان من بين تلك الأسماء أو الشخصيات التي دخلت دائرة الاحتمال لدى الجهات المقرِّرة. إلا أنّ تصاعد الخلاف بين طهران وواشنطن دفع الأولى إلى كسر قواعد الاشتباك والتوافقات غير المكتوبة بينهما لمصلحة التحكّم بمواقع الرئاسات الثلاث، وأجّلت طرح الكاظمي مرشّحاً رئيساً لموقع رئاسة الحكومة لمصلحة عادل عبد المهدي.
استطاع الكاظمي من خلال شبكة العلاقات هذه أن يتحوّل إلى نقطة التقاء لجميع الأطراف وقناة لإيصال الرسائل بينها، حتى بين الأجهزة المتصارعة. وقد تحوّلت هذه الشبكة إلى نقطة قوّة تُحسب له
كان وصول الكاظمي إلى رئاسة الوزراء نتيجة مخاض صعب ومعقّد مرّت به الساحة العراقية نتيجة التطوّرات الأمنيّة والمواجهات التي حصلت بين الأجهزة الأمنيّة ومتظاهري حراك تشرين، وانتهت باستقالة عبد المهدي بعد دخول مرجعية النجف مباشرةً على خطّ الأزمة والتشكُّك في شرعيّة الحكومة ورئيسها.
أن يرسو الخيار على الكاظمي لإخراج العراق من أزمته الحكومية لم يكن بعيداً عن التوقّعات السياسية، وإن كان بالنسبة إلى الطرف الإيراني الفاعل بديلاً مؤجّلاً. إلا أنّ القلق من التعقيدات التي قد يتسبّب بها وصول رئيس كتلة النصر البرلمانية عدنان الزرفي، جعلت من الكاظمي حلّاً يمكن استثماره والتفاهم معه، ومرحلةً انتقاليةً تسمح بمرور العاصفة وانعدام الوزن الذي أصاب الدور السياسي الإيراني بعد اغتيال الجنرال قاسم سليماني.
وقد كان تلاقي مصالح الأطراف العراقية على الكاظمي بناءً على اعتقاد قيادات هذه القوى بأنّه من خارج التركيبة الحاكمة أو المتحكّمة، ولا يملك كتلة نيابية أو حزباً سياسياً داعماً، ويمكن التعامل معه لتمرير المرحلة الانتقالية وتهدئة الشارع وامتصاص حالة الغضب والنقمة الشعبية.
لم تكن حسابات القوى السياسية دقيقةً في صوغ هذه المعادلة. فالكاظمي استطاع خلال وجوده على رأس جهاز الاستخبارات بناء شبكة علاقات عميقة مع أجهزة الاستخبارات المعنيّة بالساحة العراقية، من الإيرانية وحلفاء إيران في المنطقة، أو العربية المعنيّة بالوضع العراقي، أو الاستخبارات الدولية التابعة للدول الفاعلة في العراق، إلى أجهزة الدول المعنيّة بنتائج المعركة مع تنظيم داعش.
وقد استطاع الكاظمي من خلال شبكة العلاقات هذه أن يتحوّل إلى نقطة التقاء لجميع الأطراف وقناة لإيصال الرسائل بينها، حتى بين الأجهزة المتصارعة. وقد تحوّلت هذه الشبكة إلى نقطة قوّة تُحسب له، لأنّ العواصم المعنيّة بقضايا الشرق الأوسط والعراق كانت تحتاج إليها في هذه المرحلة الدقيقة والانتقالية. فصار العراق بفضل هذه الشبكة محطةً للحوار بين القوى المختلفة. واستطاع الكاظمي توظيفها لمواجهة الضغوط التي يتعرّض لها من القوى والأحزاب والفصائل الداخلية، بحيث ساعدته على تمرير سياساته العسكرية والأمنيّة والاقتصادية.
إقرأ أيضاً: هكذا يُصنَع رئيس الوزراء في العراق (2/3)
وبالإضافة إلى ما استطاع الكاظمي تحقيقه على صعيد إعادة ترميم دور المؤسسة العسكرية وتطوير البناء، الذي بدأه رئيس الوزراء الأسبق العبادي بعد انتهاء المعركة مع داعش وتعرّض لانتكاسة أيام عبد المهدي، تُعتبر هذه المعادلة من مصادر قوّة الكاظمي في التركيبة السياسية. ويُفترض أن تسهّل عودته إلى موقعه في رئاسة الحكومة. إلا أنّها في الوقت نفسه تعتبر مصدر ضعف يهدّد هذا الطموح، لأنّ القوى السياسية ستعمل على فرض الرئيس الذي لا يشكّل تهديداً لمصالحها، حتّى لو شاركت في التسوية التي قد تأتي به، خصوصاً أنّ حسابات هذه القوى لحجم تمثيلها البرلماني في الانتخابات المرتقبة يلفّه الكثير من الغموض، وهو ما يدفعها إلى التمسّك بفرض الرئيس الذي تريده، أو على الأقلّ قبول الكاظمي حلّاً وسطاً بين الجميع. لكنّه في هذه الحالة سيكون أكثر قيوداً وأقلّ حرّيةً في العمل ممّا كان عليه في المرحلة الانتقالية. لأنّ هذه القوى ستصرّ على الدفاع عن مصالحها، إضافةً إلى التوجّس من التأثيرات التي قد تحملها التسويات المرتقبة على المستوى الإقليمي بين إيران والجوار العربي، والدولي بين إيران والإدارة الأميركية التي قد تجعل أو تكرّس “العراق في نطاق الحصّة الإقليمية لإيران”، حسب ما يعتقد رئيس تيّار الحكمة السيّد عمّار الحكيم.