شكراً لمصر والمثقفين العرب: مشروعنا واحد

مدة القراءة 6 د

كانت جائزة النيل للمبدعين العرب، التي حصلْتُ عليها من المجلس الأعلى للثقافة في مصر للعام 2021، مفاجأةً كبيرةً جدّاً لي، وما توقّعتُها لأنّها عالية القدر جدّاً. فهي أعلى جائزةٍ علميّة مصريّة، وتُرشِّح لها الجامعات ومجالسها. وهي تُعطى في ثلاثة مجالات، إثنان منهما للمصريين، ومجال واحد للعرب. وقد حُجِبت لسنوات في المجال العربيّ. فأنا ما توقّعتُها لسببيْن:

– أوّلهما شموخها العلمي. فهي تُعطى لمن اكتملت تجربتهم العلميّة أو الفنّية أو الأكاديميّة أو كادت، وأبدعوا في مجالاتٍ متعدّدة من العلوم الإنسانية.

والسبب الثاني، للمفاجأة، بعد النبل المصري والاستقبال المصري والرحابة المصرية، هذا القبول الواسع بل شبه التامّ الذي لقيتُه من جانب كبار المثقّفين المصريّين وكلّ المثقّفين العرب.

نجتمع نحن المثقفين العرب على أفكار أساسية في ما يتعلق بالحاضر العربي والمستقبل العربي وتجديد تجربة الدولة الوطنية واستعادة السكينة في الدين والعلاقات الطبيعية مع العالم.

لقد رشّحتني سبع جهات علميّة مصريّة، وحصلتُ على سبعة أصوات من ثمانية. وكان هذا في رأس اعتزازاتي. فكما قال الصديق السيّد ولد أباه عنّي: “إنّني مثقّف مصريّ(!)”. فعلى الرغم من لبنانيّتي الجبليّة أو الريفيّة، فإنّ كلّ ذكريات الفتوّة والشباب مصريّة. وما شكّلت مصر عالمي الديني والفكري والثقافي والإنساني فقط (1965-1971)، بل وحدّدت وجهة السير نحو العالم الأوسع حينما أثّر فيَّ أساتذتي المصريّون: عبد الرحمن بدوي، ومحمد البهي، ومحمود زقزوق، فمضيتُ إلى ألمانيا للدراسات العليا والدكتوراه. وبالطبع، فإنّ أساتذتي وزملائي بالأزهر لا يزالون منفتحين عليّ، ويقدّرون جهدي العلميّ ومشروعي الفكريّ، إذ قال أستاذنا محمود زقزوق (كان يومها عام 1998 وزيراً للأوقاف، ودرّسني عام 1968 و1969. توفّي عام 2019)، وهو يقدّمني إلى شيخ الأزهر الأسبق: “هذا رضوان السيّد واحد من عشرة أزهريّين كبار منذ الإمام محمد عبده وإلى نهايات القرن العشرين”. فالقبول الأزهريّ مؤمَّنٌ ومستمرّ. بيد أنّ المفاجأة أو المفاجآت متعدّدة في مصر الشاسعة الهمّة والاهتمام والاحتضان: كلّ المثقّفين المصريّين الكبار والأوساط رحّبوا بحصولي على الجائزة بسبب ضخامة الإنجاز، كما قالوا. بل إنّ بعض كبارهم كتبوا أيضاً شهادات لي نشرها موقع “أساس”. وأنا لا أعرف الجهات التي رشّحتني للجائزة، وهي جهات علميّة كبيرة. أعرف فقط رئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد عثمان الخشت، الذي ذكر الترشيح، وذكر اعتزازه بذلك.

القبول المصري والاعتزاز المصري أوّل وأساسيّ. بيد أنّ الزملاء العرب، كباراً وأوساطاً، وصلوا، بحمد الله، إلى حدود “المبالغة” في القبول والاحتضان. عشرات هنّأوا هاتفياً أو برسالة. وعشرات من كلّ البلدان العربية كتبوا شهادات: من المملكة العربية السعودية (التي حصلتُ على جائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية منها عام 2017) ودولة الإمارات وعُمان والكويت والمغرب وتونس وموريتانيا والعراق وسورية ولبنان.

البعض منهم يعرفني شخصيّاً، والبعض الآخر من طريق المجلّات الفكريّة البارزة التي حرّرتُها، وفي طليعتها “الفكر العربي”، و“الاجتهاد”. هؤلاء الإخوة والزملاء نشروا في مجلّات “الاجتهاد والفكر العربي”، وأخيراً “التسامح”. لقد كان التواصل دائماً. وأنا أعتزّ بتقديرهم على اختلاف منازعهم الفكرية. أمّا هم من جانبهم، فمنهم مَنْ قدّر عملي النهضويّ في المجلّات الفكرية، ومنهم لأنّني مؤسّس لتخصّص التفكير السياسي في الإسلام، ومنهم من اعتبر نظريّتي الجديدة في التاريخ الثقافي والموروث، ومنهم من قدّر صراعي مع الأُصوليّات، وانتصاري للدولة الوطنية، ومنهم أخيراً من اعتبر إنجازاتي في مجال الإصلاح الديني، وفي متابعة الاستشراق الألماني ونقده.

هذا القبول الكبير يدعو للغبطة ويدعو للمتابعة ويدعو في الوقت نفسه إلى أن نلتفت إلى ثقافتنا باعتبتارها إحدى دعائم النهوض وأنّ هذا القبول شبه الجماعي من مشجعات الاستمرار في المشروع الكبير للدولة الناهضة

لقد لفت انتباهي، وأنا لا أعمل كثيراً على وسائل التواصل:

– أنّ الكتاب والمجلّة (وهما وسيلتاي للنشر) لا يزالان مقروءين. إذ معظم الذين هنّأوني أو كتبوا عنّي، ذكروا كتاباً أو أكثر من كتبي وبعض دراساتي ومقالاتي البارزة.

– أمّا الأمر الآخر الذي لفت انتباهي فهو كثافة القراءة للصحف اليوميّة، وأنا أكتب في الصحافة في موضوعات سياسيّة وثقافيّة منذ ثلاثين عاماً وأكثر. هناك أُناسٌ كثيرون جدّاً يتابعون مقالاتي الصحافية، وموقعي على الإنترنت.

والأمر الثالث الذي لفت الانتباه أنّ هذا الاهتمام الكبير موجود لدى المثقّفين ولدى القرّاء على الرغم من أنّني لا أكتب في مسائل سياسيّة بحتة أو أدبيّة جذّابة. بل كتبتُ وأكتب في قضايا وموضوعات “ثقيلة الدم”، كما يقال. وهذا يدلُّ على استمرار الاهتمام حتى من جانب الشباب بالقضايا العربية والإسلامية العامّة، وبالعلاقات بين الأديان، والعلاقات الطبيعية مع العالم.

والأمر الرابع الذي شكّل لي بعض المفاجأة أنّ كثيرين من الأكاديميّين الأجانب اتّصلوا مهنّئين أو كتبوا، وأنا لا أنشر بالألمانية والإنجليزية إلاّ قليلاً، إنّما زاملتُ بعضهم في أوكسفورد أو فرانكفورت، أو الجامعات التي درّستُ فيها زائراً، مثل هارفرد وشيكاغو. وقد تبيّن لي أنّهم يقرأون مقالاتي، وليس كتبي فقط، في المجلّات، وأيضاً في الصحف. وعندما سألتهم، ذكروا أنّ ما أكتبه في علائق الدين بالدولة، وفي متابعة الحركات الإسلامية، وفي الإصلاح الديني، كلُّ ذلك مثيرٌ للاهتمام للذين يعملون في التاريخ الديني والثقافي، وللذين يعملون في مجال الدراسات الإسلامية الحديثة، ودراسات الشرق الأوسط.

وكما كانت جائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية (في مجال التفكير السياسي في الإسلام)، في عام 2017، فرصةً لتقويم مدى القبول العلميّ لرؤيتي لعلائق الدولة بالدين في التاريخ والحاضر وإعادة النظر في بعض الجوانب، فإنّ جائزة النيل فرصةٌ نادرةٌ لاختبار مدى التأثير في مجالات الفكر العربي والمعاصر.

ويبقى أنّ الأشدّ تأثيراً في النفس، وتشجيعاً على المتابعة، هذا الاعتراف السعودي عام 2017، والاعتراف المصري عام 2021، ومن جانب النخب الثقافيّة والعلميّة في البلدين العربيّين الكبيرين. وإلى ذلك ومعه: قبول الجماعة الأكاديمية والثقافية العربية واستقبالها الطيّب، وإصرارها على متابعة التأهّل والتأهيل.

إقرأ أيضاً: في فوز رضوان السيّد بجائزة النيل

نجتمع نحن المثقفين العرب على أفكار أساسية في ما يتعلق بالحاضر العربي والمستقبل العربي وتجديد تجربة الدولة الوطنية واستعادة السكينة في الدين والعلاقات الطبيعية مع العالم. إنني أشعر بامتنان كبير لثقافة مصر واقبال مصر كما أشعر بامتنان كبير لزملائي من المثقفين العرب لأنّنا نعمل على مشروع مشترك الذي يتوقف على النجاح هذا المشروع حاضرنا ومستقبل دولنا الوطنية وشعوبنا.

أعود وأكرّر بأنّ هذا القبول الكبير يدعو للغبطة ويدعو للمتابعة ويدعو في الوقت نفسه إلى أن نلتفت إلى ثقافتنا باعتبارها إحدى دعائم النهوض وأنّ هذا القبول شبه الجماعي من مشجعات الاستمرار في المشروع الكبير للدولة الناهضة.

شكراً مصر شكرا أيها الزملاء الكبار: {أمّا الزبد فيذهب جُفاءً وأمّا ما ينفع الناسَ فيمكث في الأرض} (سورة الرعد، الآية 17).

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…