خديعة الـ400 $: إفلاس مقنّع؟ والدولار سيحلّق

مدة القراءة 6 د

لم تكن تجربة المودعين مع تعاميم مصرف لبنان مشجّعة. أكثر من تعميم أصدره الحاكم رياض سلامة لم يُنفّذ إلى اليوم، وبدل أن يُعاقِب سلامة المصارف المقصِّرة، كان دوماً يختلق لها الحجج والأعذار، حتى إنّه كان يتستّر عليها ويدافع عنها. فكلّنا يذكر مآثر التعميم 154 الذي ما زالت رواسبه “تمغط” إلى اليوم… لذا أين الاستثناء في التعميم 158 الصادر أمس؟

تشير نظرة سريعة إلى مندرجات هذا التعميم، الذي يَعِد بإعادة جزء من أموال المودعين على دفعات شهرية، إلى أنّ تطبيقه قد لا يطول لأكثر من 3 أشهر، أو ربمّا قد تتوقّف المصارف عن دفع الـ400$ بالدولار “الكاش” بعد مدّة، وتستمرّ في دفع الـ400$ الأخرى التي ستُعطى بالليرة اللبنانية فقط.

الرهان على أن تسحب المصارف أموالها من المصارف المراسلة بنسبة 1 % من أصل 3 % ألزمها المصرف المركزي بها، فقد يكون الأمر ضرباً من ضروب الخيال أو التفاؤل المفرط. فأيّ مصرف هذا الذي سيعيد دولاراته من الخارج إلى لبنان حتّى يدفعها للمودعين في ظلّ ظروف سياسية بلا أفق

في بيانه السابق، قال المجلس المركزي في مصرف لبنان إنّ الحسابات، التي ستستفيد من التعميم 158، يقارب عددها 800 ألف من مجمل حسابات المودعين. وإذا كان هذا الرقم صحيحاً فإنّ الأموال التي ستُدفع لهذه الحسابات “كاملة وعلى مدى سنة”، ستكون من مبلغ المليار دولار الذي حرّره المجلس المركزي بواسطة خفض نسبة التوظيفات الإلزامية من 15% إلى 14%. وهذا المبلغ ستستفيد منه المصارف للبدء بالدفع، حسبما ذكر البيان.

وعليه، إذا قسّمنا مليار التوظيفات الإلزامية على الـ400 دولار “كاش” الموزّعة على حسابات الـ800 ألف مودع، يظهر أنّ المليار سيغطي 3 دفعات شهرية فقط (960 مليون $).

أمّا المبلغ الذي سيُدفع بالليرة اللبنانية، فيذكر التعميم أنّ 50% منه سيُدفع بواسطة البطاقات المصرفية، فيما المتبقّي سيُدفع بالليرة اللبنانية “الكاش”، وهذا يعني أنّ المصارف ستدفع لكلّ حساب من الحسابات الـ800 ألف مبلغ 2.4 مليون ليرة “كاش” شهرياً، أي ما مجموعه 1.92 تريليون ليرة…. ولنا أن نتصوّر وقع هذا الرقم على التضخّم والتهافت على شراء الدولار مجدّداً.

أمّا الرهان على أن تسحب المصارف أموالها من المصارف المراسلة بنسبة 1 % من أصل 3 %ألزمها المصرف المركزي بها، فقد يكون الأمر ضرباً من ضروب الخيال أو التفاؤل المفرط. فأيّ مصرف هذا الذي سيعيد دولاراته من الخارج إلى لبنان حتّى يدفعها للمودعين في ظلّ ظروف سياسية بلا أفق، وتعثّر في جدولة الديون والتفاوض مع صندوق النقد الدولي؟

ولِمَ المخاطرة في ذلك طالما أنّ جمع هذه الدولارات من السوق السوداء، وبالليرة اللبنانية البخسة، أمر ممكن جداً في ظل العرض النشط؟

يمكن الاستدلال على هذا الاستنتاج من خلال سعر الصرف المستجدّ خلال اليومين الفائتين، إذ سجّل قفزة تخطّت الألف ليرة خلال 48 ساعة، مسجّلاً 14000 للمبيع و14200 للشراء، بعدما كان شبه مستقرّ منذ بداية شهر رمضان.

ما الذي تغيّر حتى شهد هذه القفزة؟ وما هذه الصدفة أن يحدث ذلك قبل الشروع بإجراءات الدفع وقبل صدور قانون الـ”كابيتال كونترول”؟

لا مبرّر لارتفاع سعر الصرف في “السوق السوداء” على الإطلاق، خصوصاً أنّ تصاريح الصرّافين لـ”أساس” أجمعت على أنّ الطلب على الدولار كان في الآونة الأخيرة “شبه معدوم”، بالأخص بعد سحب التجّار والمستوردين إلى المصارف من أجل بيعهم الدولار على سعر المنصّة البالغ 12 ألف ليرة.

أمّا العرض فهو “أنشط من الطلب” بدرجات، وذلك بسبب توافد المغتربين من الخارج، وتهافتهم على الصرف في المطاعم والمقاهي والمسابح والفنادق التي تبدو حركة العمل فيها، هذه الأيام، منفصلة كليّاً عن واقع الأزمة… وكلّ ذلك معاكس لتوجّهات السوق، أقلّه خلال فصل الصيف.

لا مبرّر لارتفاع سعر الصرف في “السوق السوداء” على الإطلاق، خصوصاً أنّ تصاريح الصرّافين لـ”أساس” أجمعت على أنّ الطلب على الدولار كان في الآونة الأخيرة “شبه معدوم”، بالأخص بعد سحب التجّار والمستوردين إلى المصارف من أجل بيعهم الدولار على سعر المنصّة البالغ 12 ألف ليرة

يفترض المنطق أنّ المصارف عادت مجدّداً إلى لعبتها القديمة في “شفط” الدولارات، إذ لجأت إلى هذه اللعبة قبل أشهر من أجل زيادة سيولتها لدى المصارف المراسلة بنسبة 3% (وبعضها فشل)، وحينما انتهت مهلة مصرف لبنان عاد سعر الصرف إلى الاستقرار.

أمّا اليوم فالدلالات تقود إلى الظروف نفسها: المصارف ستلجأ إلى “السوق السوداء” لشراء الـ400 دولار من أجل أن تدفعها لكل مودع في بداية تموز. وعليه، يعطي شفط الدولارات، الذي بدأ قبل يومين بواسطة أيادٍ خفيّة، انطباعاً بأنّ المصارف خلفه، وهذا قد يُدخل سوق الصرف مجدّداً في دوّامة “صعود وهبوط” حادّة، من أجل جمع الدولارات التي ستُدفَع للمودعين بداية كل شهر، ناهيك عن تهافت الناس على شراء الدولار مجدّداً بواسطة الليرات التي سيقبضونها أيضاً. وهذا يعني أنّ دولارات “السوق السوداء” سيتناتشها المودعون والمصارف مستقبلاً، على حدّ سواء، وسيُلهبان سعر الصرف من جديد.

إضافةً إلى ذلك، يوحي لجوء المصارف إلى “السوق السوداء” بأنّها لا تستسيغ الدفع من أموالها في الخارج، ولا من توظيفاتها الإلزامية. لذلك تبدو غير جدّيّة في تعاطيها مع التعميم على الإطلاق، وجلّ ما يمكن أن تصبو إليه هو “الترقيع” وتمرير الوقت في سبيل استشراف المرحلة المقبلة.

لم تحتَجْ المصارف إلى قانون لحجز أموال المودعين في تشرين الأول 2019 مع بدايات الأزمة، لكنّها اليوم لا تتحرّك لدفع ما عليها إلاّ بتعميم أو بقانون. فلو كانت جدّية فعلاً ومعنيّة بترميم ثقة العملاء بها، لتطوّعت من تلقاء نفسها من أجل دفع ما عليها، لكنّها لم تفعل ولن تفعل.

ولماذا تفعل ذلك اليوم طالما أنّ المودع صامت، ويقف كما كل اللبنانيين، في طوابير المحروقات لساعات، وينام في الظلمة بلا كهرباء ولا يتفوّه بأيّ كلمة؟

لعلّ سقف الودائع، الذي وضعه مصرف لبنان لدفع ما يسمّيه “ودائع” (50 ألف دولار)، لم يكن عشوائياً. هل من الصدفة أن يكون الرقم مشابهاً للرقم الملحوظ في آليات عمل “المؤسسة الوطنية لضمان الودائع”، والبالغ 75 مليون ليرة (50 ألفاً على السعر الرسمي) عند إفلاس المصارف؟

إقرأ أيضاً: “أرنب” الـ 400$: توزيع الخسائر بقوّة الأمر الواقع

هل يمكن تشبيه إجراءات الدفع بإفلاس المصارف “المقنّع” أو”غير المعلن”؟

ربّما نعم… وإلى حين اقتناع مصرف لبنان والسلطة السياسية بأنّ خروج الجميع منتصرين من الأزمة أمرٌ مستحيل، وأنّ إفلاس بعض المصارف سيكون ممرّاً إلزاميّاً لا مفرّ منه للتعافي.

 

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…