“أرنب” الـ 400$: توزيع الخسائر بقوّة الأمر الواقع

مدة القراءة 6 د

كان من المفترض أن يأتي قرار مصرف لبنان بصرف الدولارات لأصحاب الودائع ضمن رزمة حلّ للفجوة الدولارية الهائلة في ميزانيات البنوك ومصرف لبنان معاً. لكنّه، بالشكل الذي أُعلِن، لم يحمل أيّة بوادر لإعادة تكوين الودائع أو معالجة أزمة البنوك، بل كان مجرّد تصفية للصخب الذي يمكن أن يُحدثه صغار المودعين عند الإقرار لاحقاً بأنّ الودائع قد تبخّرت.

إنّها عملية استباقية لتخفيف الطوابير عند أبواب البنوك حين تحين لحظة الإعلان أنّ الخسائر توزّعت بقوّة الأمر الواقع، وانتهى الأمر.

يصدق على سداد البنوك للدولارات الطازجة المثلُ الإنكليزيّ القائل: “إنّه جيّد إلى الحدّ الذي لا يمكن تصديقه”. هو كذلك لأنّه لو كان تطبيقه ممكناً، بلا أثمانٍ مخفيّة أو عواقب كارثيّة، فلماذا انتظر مصرف لبنان عشرين شهراً منذ الانهيار وتوقُّف البنوك عن السداد ليُخرج هذا الأرنب؟ (يقضي بسداد 400 دولار شهرياً لكل مودع بالعملة الأجنبية الورقية، ومثلها بالليرة اللبنانية وفق سعر صرف المنصة الجديدة لمصرف لبنان).

قرار سداد البنوك للدولارات يجعل إعادة ما تبقّى من الودائع ضرباً من المستحيل

ما الذي تغيّر منذ أن توقّفت البنوك تماماً عن صرف الدولارات الورقية لعملائها لتصبح الآن قادرة على دفع 320 مليون دولار شهرياً لنحو 800 ألف مودع؟ هل يصدِّق أحدٌ المزحة السمجة بأنّ أصحاب البنوك ضخّوا فيها دولارات طازجة لزيادة رؤوس أموالها كرمى لعيون المودعين، أو أنّ السياسيين وأصحاب النفوذ أعادوا جزءاً من الأموال التي حوّلوها إلى الخارج؟

المصدر الوحيد الجدّي للدولارات، الذي يمكن الحديث عنه من خارج الحركة الطبيعية للتحويلات والإيداعات في الأشهر الماضية، هو حصيلة بيع الفروع الخارجيّة لقلّة قليلة من البنوك، ولا سيّما بلوم وعودة. أمّا السواد الأعظم من البنوك فمِنَ الاستخفاف بالعقول الزعم أنّ تعميم مصرف لبنان رقم 154 غيّر شيئاً في ملاءتها أو مراكزها المالية.

على أنّ الأخذ والردّ بين مصرف لبنان والبنوك خلال الأيام الماضية كشف عن فوضى الأرقام بينهما. فمصرف لبنان يعد بخفض النسبة الإلزامية للسيولة الخارجية للمصارف لدى البنوك المراسلة من 3% إلى 2%، بما يحرر ما بين مليار و1.2 مليار دولار، فتردّ البنوك بأنّ حساباتها لدى البنوك المراسلة مكشوفة بأكثر من مليار دولار، وفي هذا إقرار بما كان محلّ نكران منذ بداية الأزمة، وإن يكن معروفاً للمختصّين، من أنّ أزمة البنوك ليست أزمة سيولة، بل أزمة ملاءة.

فضمن قائمة المطلوبات على البنوك، ودائع بالعملات الأجنبية تقارب 115 مليار دولار، في حين تآكلت قاعدة الموجودات بشكل سريع، وهي تتكوّن أساساً من شهادات الإيداع لدى مصرف لبنان، التي ليس لها رقم رسمي معلن، لكن بعض التقديرات غير الرسمية تشير إلى أنّها في حدود 70 مليار دولار، تُضاف إليها محفظة سندات اليوروبوندز اللبنانية، التي تقارب قيمة محفظة البنوك منها 11 مليار دولار، وإن تكن قيمتها السوقية لا تزيد على 1.5 مليار دولار، وأيضاً محفظة القروض الدولارية، التي انكمشت خلال الأزمة إلى نحو 20 مليار دولار، بفعل عمليات السداد بالشيكات المخصومة السعر، أو من الودائع. ومع الأخذ في الاعتبار تدهور جودة هذه الأصول، بما فيها شهادات الإيداع لدى مصرف لبنان، يقدّر بعض المصرفيين الفجوة الرأسمالية للقطاع المصرفي بين 20 و50 مليار دولار، أي ما قد يصل إلى ثلاثة أضعاف القاعدة الرأسمالية الإجمالية للقطاع.

عند هذا الحدّ يتّضح أنّ قرار المجلس المركزي في مصرف لبنان، مهما كان فيه من ألغام، لا يستند إلى الوضع المالي للبنوك، ولا إلى أيّة خطة لإعادة هيكلة القطاع، بل إنّ العملية برمّتها تندرج في إطار مواءمة سياسية – مصلحيّة معيّنة للنظام السياسي – المالي القائم، بل إنّها في حدود ما هو معلن، تقلّل من حظوظ نجاح أيّة إعادة هيكلة في المستقبل، لأنّها تبدّد الدولارات القليلة المتبقّية، وتجعل سداد ما تبقّى من الودائع ضرباً من المستحيل.

“مقاصّة أخلاقيّة” بين تصفية الودائع الصغرى وتهريب أموال المحظيّين على مدى 20 شهراً

المفارقة أنّ البنوك لا تخجل من أن تنوح شاكيةً من قلّة الدولارات، وهي التي هربت من المسؤولية منذ اليوم الأول للأزمة، فتوقّفت بالكامل عن توفير الدولارات للاستيراد، ملقية بثقل العبء كاملاً على مصرف لبنان ليموّل كل شيء، من الرغيف والدواء والبنزين حتى النسكافيه والبسكويت. وما يعجز عنه مصرف لبنان تستغلّه السوق الموازية التي تضخّمت وتورّمت بفعل حجم الطلب، فانفجر الدولار إلى مستوياته الراهنة.

التفسير الآخر لقرار مصرف لبنان هو تضمُّنه شيئاً من “المقاصّة الأخلاقية”، بحيث تمسح البنوك ما اقترفته على مدى عشرين شهراً من تهريبٍ لأموال المحظيّين من ملّاكها وكبار المديرين والعرّابين من السياسيّين وأصحاب النفوذ تحت غطاء من الطبقة السياسية، التي ضمنت عدم إقرار قانون الكابيتال كونترول، فيما نبذت العملاء العاديين في طوابير الذلّ والانتظار منذ أن أقفلت أبوابها في وجوههم منذ 17 تشرين.

هكذا، لن يكون مجالٌ لإسكات الساخطين على تهريب مليارات الدولارات لبضع مئات من أصحاب “السوبر واسطة” إلّا بصرف بضعة مليارات أخرى مقسّطة على مدى ثلاث سنوات، لمَنْ هم في أدنى هرم المودعين. وهذا هو جوهر المقايضة بين إقرار قانون الكابيتال كونترول وسداد الـ400 دولار لكلّ مودع: الأوّل يحقّق مصالح أصحاب النفوذ، والثاني يُسكت الصغار.

يقول مصرف لبنان إنّ التعميم الجديد سيؤدّي إلى تسديد كامل أرصدة حسابات 800 ألف عميل خلال السنة الأولى من تطبيقه، أي ما يعادل 70% من حسابات المودعين. التخلّص من هؤلاء يعني التخلّص ضمناً من معظم الجماهير التي تثير الصخب، وهذا يُعين البنوك لتحيِّد نفسها من عناوين السخط الاجتماعي، وتعود الجماهير لتُفرِغ سخطها في وجه الدولة.

هكذا يتخلّص أرباب النظام المالي – السياسي من الركنيْن القادرين على الاعتراض على تحميل المودعين للخسائر: الفئة العليا من أصحاب النفوذ، والفئة الدنيا من أصحاب الصخب. وبينهما فئة من المغتربين ورجال الأعمال وأبناء الطبقة المتوسطة، بدأت تُعوّد نفسها على فكرة الخسارة، كما فعلت حين انهارت الليرة في الثمانينيّات.

عندئذ يصبح بالإمكان تصفية الخسائر وفتح صفحة جديدة عنوانها توزيع الخسائر بقوّة الأمر الواقع: خسر مَن خسر، وهرب مَن هرَّب أمواله، وأُسكِت من يَحسُن إسكاته.

إقرأ أيضاً: سلامة يخرج أرنبه: الإنقاذ… بالتقسيط

كسر هذه الحلقة يتطلب إعادة الاعتبار لحفظ أموال المودعين كاملة، وليس لفتات منها كلّ شهر، وهذا يتطلب خطة لإعادة الهيكلة تقدم الدولة فيها جزءاً من موجوداتها، بلا لبس ولا استحياء، لتتحمل مسؤولية الخطايا في إدارة المال العام على مدى السنوات الماضية. وكل كلامٍ عن رفض التنازل عن أصول الدولة لصالح البنوك زيف وتضليل، لأنّ الخيار ليس بين أن تتحمل الدولة مسؤولية الودائع أو أن تتحمّلها المصارف، بل بين أن تضيع الودائع أو أن تتحمل الدولة مسؤولية عجزها وهدرها وديونها.

لا يمكن للبنان الدولة أن يخرج من الأزمة ويستعيد الثقة، ولو بعد سنين، من دون الإجماع على هذا المبدأ.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…