25 ألف دولار لكلّ صاحب وديعة.. من أين؟

مدة القراءة 7 د

قفز حاكم مصرف لبنان رياض سلامة فوق فشل البنوك في تطبيق التعميم الـ154، ليعلن جزافاً، ومن دون تفاصيل، “نجاح التعميم”، ويتيح لنفسه إعلان “مبادرة” لتقسيط ودائع الناس. فمن أين تأتي البنوك بالأموال؟

واقع الأمر أن القطاع المصرفي دخل منذ أشهر طويلة في مسار الفصل في قوائم مطلوباته بين ما قبل 17 تشرين وما بعده، بمعنى أنّ أيّ دولار دخل البنكَ بعد 17 تشرين له حكم مختلف عن الودائع السابقة لذلك التاريخ. وقد قامت البنوك بتصفية كمّ غير محدّد من تركة ما قبل 17 تشرين عن طريق “الليلرة”، أي السماح للمودعين بسحبها بالليرة وفق سعر 3900 ليرة للدولار، مع إجراء تسوية مقابلة مع مصرف لبنان تجعل البنك يتحرّر من مطلوبات بالدولار من دون أن يتحمّل أيّة خسارة.

مضمون بيان مصرف لبنان يشير، بشيء من الغموض المقصود، إلى مخطّط يُعدّ له لتصفية مشكلة ودائع ما قبل 17 تشرين، على النحو التالي:

المشكلة الأكبر ستكون لدى أصحاب الودائع الكبيرة. فهؤلاء لن يحصلوا سوى على جزء بسيط من أموالهم بالدولار، وعلى فترات تقسيط مطولة، فيما ستصبح بقية أموالهم عرضة لهشاشة سعر صرف الليرة

– سداد جزء منها بالدولار، بسقف لا يتجاوز 25 ألف دولار سنويّاً، مهما بلغ حجم الوديعة، مع تجميد الأجزاء الأخرى من هذه النسبة لفترات استحقاق مؤجّلة تمتدّ لسنوات.

– تحويل نسبة من الودائع إلى الليرة وفق سعر يقاس بمعادلة معيّنة كنسبة إلى سعر صرف المنصّة التي ستُطلَق، مع فرض سقوف على السحوبات، لئلا تتضخّم الكتلة النقدية بالمفهوم الضيق (M1)، فيخرج سعر الدولار في السوق الموازية عن السيطرة.

– في المقابل، يُجري مصرف لبنان تسوية مقابلة مع البنوك، بحيث يُبقي على جزء قليل منها بالدولار، ولفترات استحقاق ممتدّة، على أن يحوِّل جزءاً آخر إلى شهادات إيداع بالليرة.

هذه الخطة ستحمل “هيركت” مباشر في سعر التحويل من الدولار إلى الليرة، و”هيركت” آخر غير مباشر من خلال الانخفاض اللاحق المتوقّع لسعر الصرف بعد عملية “الليلرة”. لكنّها في منظور القطاع المصرفي ضرورية، لأنها تريح ميزانيات البنوك إلى حدّ بعيد، فهي تحرّرها ممّا لا يقلّ عن سبعين مليار دولار من المطلوبات، ويتيح لها ردم جزء كبير من الفجوة بين الموجودات والمطلوبات الأجنبية.

وتخفّف أيضاً الضغوط على مصرف لبنان، من حيث تقليص الفجوة الهائلة في ميزانيته التي تبقى أرقامها الدقيقة سرّاً من أسرار رياض سلامة، لكن يمكن الاستناد إلى حجم “الموجودات الأخرى” في ميزانية المصرف المركزي البالغة نحو 74.5 ألف مليار ليرة، للاستنتاج أنّها لا تقلّ عن 50 مليار دولار.

لكن أين تكمن المشكلة؟

المشكلة الكبرى ستكون لدى أصحاب الودائع الكبيرة. فهؤلاء لن يحصلوا إلّا على جزء بسيط من أموالهم بالدولار، وعلى فترات تقسيط مطوّلة، فيما ستصبح بقية أموالهم عرضة لهشاشة سعر صرف الليرة.

وفي الأمر إشكال أخلاقي كبير. فسلامة نفسه هو عرّاب النموذج الخطير، الذي سمح للبنوك ببناء انكشافات على المطلوبات بالعملة الأجنبية بهذه الضخامة، لتوفير التمويل للقطاع العام، وكانت الضمانة الوحيدة للمودعين هي الإيداع بالدولار. فالارتداد عنها الآن بغطاء قانوني، كما يطلب سلامة، هو في الحدّ الأدنى خديعة للمودعين.

والمشكلة الثانية، ستكون في صعوبة توفير 25 ألف دولار لكل صاحب وديعة. فكلّ ما تبقّى من تلك الودائع ليس أكثر من نسبة الـ15% المجمّدة لدى مصرف لبنان على شكل توظيفات إلزامية، وهي آخر ما تبقّى من احتياطاته. وعلى هذا الاحتياط لا يقف فقط عبء دعم المواد الأساسية وحفظ الحدّ الأدنى من الاستقرار النقدي، بل يقف عليه أيضاً عبء استحقاقات مدفوعات الفوائد التي يتحمّلها مصرف لبنان على شهادات إيداع البنوك (يدفع نصفها بالدولار ونصفها بالليرة)، وهي أيضاً أعباء لا يكشف مصرف لبنان بياناتها، خلافاً لأدنى قواعد الشفافية والإفصاح.

أمّا البنوك فهي العاجزة عن تحرير 3% من قيمة الودائع في حسابات لدى البنوك المراسلة، وهي التي تصرخ في مجلس النواب بأنّها لا تستطيع توفير 900 مليون دولار سنوياً لتغطية التحويلات الضرورية المنصوص عليها في مسوّدة اقتراح قانون الكابيتال كونترول، فمن أين تأتي بعشرة في المئة من قيمة الودائع بالدولار؟

بعض التقديرات من مسؤولين مصرفيين تشير إلى أنّ الحسابات التي في رصيدها 25 ألف دولار أو أكثر من مرحلة ما قبل 17 تشرين، تعدّ بمئات الآلاف، ما يعني أن تكلفة دفع هذا المبلغ لها ستكون بالمليارات وليس بمئات الملايين، ومن غير الممكن توفيرها إلا من خلال قرار كبير بخفض الحدّ الأدنى للتوظيفات الإلزامية لدى مصرف لبنان من 15% إلى 10%، وهو قرار له آثار كبيرة في هذه المرحلة، ويمكن أن يؤثّر على أيّة خطة مستقبلية للخروج من الأزمة.

المشكلة الثانية، ستكون في صعوبة توفير 25 ألف دولار لكل صاحب وديعة. فكل ما تبقى من تلك الودائع ليس أكثر من نسبة الـ15% المجمدة لدى مصرف لبنان على شكل توظيفات إلزامية، وهي آخر ما تبقى من احتياطاته

الرهان كلّه إذاً على أمرين: أوّلهما تجميل الميزانيات العمومية للبنوك ومصرف لبنان وإصلاح الفجوات في سلالم الاستحقاقات، وثانيهما تخفيف عبء تكاليف التمويل بالدولار على مصرف لبنان وإنقاذه من التعثّر.

الصدمة في بيان حاكم مصرف لبنان ليست في هذه الخطة الصعبة المنال، بل في شبه الجملة التي ساقها في مطلع البيان كما لو أنّها تحصيل حاصل، ونصّها: “بعد نجاح التعميم الـ154 والتزام المصارف بمندرجاته (…)!”

هكذا، وبكل بساطة، تمرّ معلومة بهذه الخطورة، يتوقّف عليها ما إذا كان أيٌّ من البنوك مفلساً أم مليئاً، وما إذا كان قادراً على إعطاء الودائع للناس أم لا.

ألا يستحقّ أمرٌ بهذه الخطورة أن يُصدر مصرف لبنان بياناً خاصّاً يوضح نتائج تقويم أوضاع القطاع بنكاً بنكاً، ومعدل كفاية السيولة وكفاية رأس المال لدى كلٍّ منها، ومعدّلات جودة الأصول؟

أقلّه، هل يستطيع حاكم المصرف المركزي أن يجيب بلا مواربة على أربعة أسئلة تتعلّق مباشرة بمندرجات التعميم الـ154:

1- هل التزمت جميع البنوك بتكوين حسابات حرّة من الالتزامات لدى البنوك المراسلة الخارجية بما لا يقلّ عن 3% من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية لديها؟

2- هل قام كلّ مصرف حقّاً “بعملية تقويم عادل لموجوداته ومطلوباته”، ووضع خطة إعادة هيكلة تمكّنه “خلال فترة زمنية محدودة” من الالتزام بمعايير الملاءة والسيولة، و”إعادة تفعيل نشاطاته وخدماته المعتادة لعملائه بما لا يقلّ عمّا كانت عليه قبل تشرين الأول 2019″؟

3- هل نجحت البنوك في حضّ العملاء والمستوردين على إعادة 15% من الأموال المحوَّلة إلى الخارج، وإقناع الأشخاص المعرّضين سياسياً ومسؤولي البنوك وكبار المساهمين بإعادة 30% من تحويلاتهم؟

4- هل عرضت البنوك على أصحاب الودائع تحويلها إلى سندات دين دائمة؟

تلك هي مندرجات التعميم الـ154، ولو أنّ البنوك نفّذتها بالفعل، ولا سيما البندين الأوّلين، لكانت الأزمة المصرفية قد قطعت نصف الطريق إلى الحلّ. لكنّ الواقع أبعد ما يكون عن ذلك. وقد كانت البنوك صريحة في أنّها لم تستطع تنفيذ التعميم في الشقّ المتعلّق بالحسابات لدى البنوك المراسلة، وهو ما تتواتر المعلومات في شأنه منذ انتهاء المهلة في آخر شباط الفائت.

إقرأ أيضاً: لا “كابيتال كونترول”: الوقت لم يحِن لإفلاس البنوك

الجدير التذكير به أنّ بياناً صدر عن المجلس المركزي في مصرف لبنان، في ذلك الحين، لم يأتِ على ذكر التزام المصارف بالتعميم الـ154، بل تحدّث عن “إجماع على وضع خريطة طريق مع مُهل للتنفيذ سيلجأ مصرف لبنان من خلالها إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة”.

مرّت معلومة بهذه الخطورة في شبه جملة، لأنّه شبه بيان، ولأنّها شبه مبادرة. فمصرف لبنان وحاكمه محشوران في زاويةٍ لا تسمح لهما بالمبادرة. ليس الأمر أكثر من محاولة لتفادي الآتي الذي هو أعظم.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…