زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي المملكة العربية السعودية تلبية لدعوة من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، ومباحثاته مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والمواضيع والخطوات التي تفاهما عليها، والاتفاقات الثنائية ذات البعد الاستراتيجي التي وقّعاها وتتناول المستويين السياسي والاقتصادي، وفتح الأبواب أمام استثمارات حقيقية وإنتاجية قد تساهم في نقل العراق الى خارج دائرة الدولة الفاشلة التي وصل إليها نتيجة تراكم الفساد والمحاصصة وتقاسم المغانم بين القوى والأحزاب والمكوّنات العراقية على حساب الدولة ومؤسساتها ومصالح المواطن العراقي… كلّ هذا جرى تحت أعين الجهات الإيرانية التي واكبتها بكل دقّة وترقّب، لكونها تحدّياً حقيقياً لدورها وموقعها داخل المعادلات العراقية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وحتّى الدينية.
الجانب الإيراني يضع هذه الزيارة أوّلاً في دائرة الجهود التي يبذلها الكاظمي لإعادة ترميم علاقات العراق بمحيطه وعمقه العربي، وهي جهود بدأها رئيس الوزراء العراقي أواخر شهر آب 2020 في القمة الثلاثية التي عقدت في العاصمة الأردنية عمان، بمشاركة العاهل الأردني الملك عبدالله بن الحسين والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تحت عنوان السعي إلى تأسيس “مشرق جديد” يقوم على تفعيل التعاون الاقتصادي والتنسيق السياسي والأمني. أما الزيارة السعودية فتراها القيادة الإيرانية مفصليّة في سياق هذه الجهود التي يقوم بها الكاظمي، وتعطيها بعداً فيه الكثير من التحدّي والاستفزاز، خصوصاً أنّها تنسجم وتصبّ في إطار دعوة الكاظمي لاستعادة العراق عروبته، وأدائه دوراً محورياً بين دول المنطقة.
زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي المملكة العربية السعودية تلبية لدعوة من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، جرت تحت أعين الجهات الإيرانية التي واكبتها بكل دقّة وترقّب
ويتجاوز ترقّب إيران لِما قد تحمله هذه الزيارة من نتائج، دائرةَ العلاقات العراقية العربية المباشرة، لتطول المعادلة المذهبية التي عملت مع الولايات المتحدة خلف الكواليس لإرسائها في العراق ما بعد عام 2003، والتي قام عليها العراق الجديد. وكان تغليبٌ لمكوِّن على سائر مكوّنات المجتمع بهويّته المركّبة والمتداخلة عرقياً ومذهبياً ودينياً وعشائرياً، من خلال تغليب البعد المذهبي الشيعي المتوافق مع رؤيتها المذهبية وتكريسه على رأس السلطة في هرميّة النظام الجديد وحصر موقع رئاسة الوزراء والقيادة العامة للقوات المسلحة بالمذهب الشيعي.
واستطاعت إيران خلال العقدين الماضيين أن تفرض إرادتها في وصول الشخصية التي تتوافق مع سياساتها ورؤيتها إلى هذا المنصب، وحرصت على اختيار الشخص الذي يلتزم توجّهاتها ولا يعمل بما يتناقض معها. واستندت في فرض هذه السياسة إلى البعدين المذهبي والديموغرافي للطائفة الشيعية. وألزمت أي حكومة عراقية بمراعاة هذا البعد المذهبي في علاقاتها مع دول المنطقة، خصوصاً مع النظام الإيراني وسياساته الإقليمية.
ويرى النظام الايراني أنّ وصول الكاظمي الى رئاسة مجلس الوزراء، الموقع الأوّل في السلطة، هو استثناء وحالة طارئة فرضتها التطوّرات والأحداث التي شهدتها الساحة العراقية بعد تظاهرات تشرين 2019، التي أدّت إلى إسقاط حكومة عادل عبد المهدي. فكان عليها التعامل مع هذه المرحلة الانتقالية والعمل على استيعاب المتغيرات وإفراغها من قدرتها على إحداث تغيير جذري قد يهدّد مصالحها المباشرة والاستراتيجية. خصوصاً أنّ موافقتها على اختيار الكاظمي لهذا المنصب، كانت بسبب انعدام الخيارات البديلة، بالإضافة إلى محاولة استيعاب الفراغ الناتج عن تغييب الشخصية التي تمسك بخيوط اللعبة العراقية أي الجنرال قاسم سليماني الذي اغتيل في لحظة هي الأشد تعقيداً بالنسبة إلى طهران على الساحتين الاقليمية والدولية بعد استهدافه بغارة أميركية بالقرب من مطار بغداد، لم يتردّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إعلان مسؤوليته المباشرة عن قرار الاغتيال.
يرى النظام الايراني أنّ وصول الكاظمي الى رئاسة مجلس الوزراء، الموقع الأوّل في السلطة، هو استثناء وحالة طارئة فرضتها التطوّرات والأحداث التي شهدتها الساحة العراقية بعد تظاهرات تشرين 2019، التي أدّت إلى إسقاط حكومة عادل عبد المهدي
وما بين البعدين المذهبي والعربي، يرى النظام الإيراني أن خلفيّة تحرّك الكاظمي عربيّة ولا علاقة لها بالبعد المذهبي، وهو ما يتعارض مع الرؤية الإيرانية. وتصبّ زيارات الكاظمي لبعض الدول العربية في اطار تعزيز البعد والمحور العربيّين، ويمثّل انفتاحه على السعودية استجابة لتأثير الحلقة المحيطة به التي تتبنّى عقيدة قومية عربية تتعارض حدّ العداء مع البعد المذهبي وتعمل على إعادة ترميم علاقات العراق وتعميقها مع محيطه العربي، خصوصاً مع السعودية والأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر بالطبع.
مماطلة الكاظمي في السير بالقانون الذي أقرّه البرلمان العراقي في الخامس من كانون الثاني 2020، والذي طالب الحكومة بوضع آليات خروج القوات الأميركية والأجنبية من العراق بعد اغتيال سليماني وقائد أركان الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، ترى فيها إيران أنّها تصبّ في اطار استجابة الكاظمي وحكومته للضغوط التي تمارسها الإدارة الأميركية على حكومته لعدم تنفيذ هذا القانون.
إقرأ أيضاً: انتشال الأوطان: السعودية تبدأ من العراق
وتشير طهران إلى أنّ ما يتحدث عنه الكاظمي، من آليات تفاهم مع الإدارة الأميركية تتعلّق بقواعدها العسكرية وقواتها في العراق في إطار الحوار الاستراتيجي، لا يلبّي المطلب الإيراني. خصوصاً أنّه أعاد التأكيد من الرياض على الحاجة العراقية الملحّة إلى الاستعانة بخبراء ومدرّبين أميركيين لتدريب الجيش والقوات المسلحة العراقية وتحديثها، بالإضافة إلى توسيع التعاون ولتدريب مع قوات حلف الناتو العاملة في العراق بما ينسجم مع القرار الأخير للناتو الذي رفع عديد قواته العاملة في العراق من 500 عنصر إلى 4500 عنصر.
وتعتبر طهران أنّ كلّ هذه الخطوات نحو العمق العربي، والتمسّك باستمرار الوجود الاميركي والتعاون معه، تعزّز سياسة ابتعاد العراق عن إيران وإضعاف الدور الإيراني في هذا البلد ومحاصرته لصالح دول إقليمية تتّهمها طهران بتقويض دورها ونفوذها والقضاء على حلفائها في المنطقة، وتؤسّس لحالة من الاشتباك الداخلي بين المكوّنات العراقية على خلفيات مذهبية وعرقية وقومية، قد تؤدّي إلى اضطرابات وحروب محدودة لا تنتهي.