المصارف تطرد المودعين: التهرّب من “تكوين السيولة”!

مدة القراءة 6 د

منذ أسابيع، بدأت المصارف اللبنانيّة تصدر مجموعة قرارات جديدة تصب جميعها في خانة واحدة: خفض عدد الحسابات الموجودة لديها، وتقليص حجم ودائعها. أولى تلك الخطوات كانت أنّ المصارف اتّخذت، وبشكل متزامن، إجراءات تضيّق على عمليّات إيداع الشيكات بالليرة اللبنانيّة، بعد أن كانت هذه الإجراءات محصورة سابقاً بشيكات الدولار الأميركي. ثمّ أطلقت معظم المصارف في وقت لاحق جردات واسعة النطاق على الحسابات الموجودة لديها، لطلب إقفال الحسابات التي تشهد حركة خفيفة أو أرصدة محدودة القيمة، فيما بدأت بعض المصارف بإضافة عمولات كبيرة وغير منطقيّة بهدف حث أصحاب الودائع الأكبر نسبيّاً على إقفال الحسابات بعد سحب الأرصدة الموجودة فيها أو نقلها إلى مصارف أخرى. ببساطة، وبعكس المنطق الذي يحكم عمل المصارف التجاريّة في العادة، باتت المصارف مهتمّة بطرد الودائع والمودعين، لا استقطابها.

لا يمكن فصل كل هذه التطوّرات عن استحقاق شباط المقبل، الذي وضعه مصرف لبنان كمهلة أخيرة للمصارف للامتثال لمتطلبات إعادة الرسملة، قبل وضع اليد على المصارف غير الممتثلة تمهيداً لدمجها بمصارف أخرى. فتعاميم المصرف المركزي، فرضت على المصارف تكوين أرصدة لدى المصارف المراسلة في الخارج بالدولار الطازج، بما يوازي 3% من قيمة الودائع الموجودة لديها.

وبذلك باتت المصارف مهتمّة بتخفيض قيمة الودائع الموجودة لديها بأي طريقة، لتخفيض قيمة السيولة المطلوب تكوينها في المصارف المراسلة في الخارج، وهو ما يفسّر العمولات المرتفعة الجديدة التي جرى فرضها لدفع المودعين إلى سحب ودائعهم المدولرة نقداً بالليرة أو تحويلها إلى مصارف أخرى، ومن ثم إقفال حساباتهم. وهنا تجدر الإشارة إلى أن سحب الودائع المدولرة بالليرة أو تحويلها إلى مصارف أخرى داخل لبنان، لا يكلّف المصارف حالياً أي دولارات طازجة، بل تدفعها المصارف من حساباتها الموجودة في مصرف لبنان. وفي الوقت نفسه باتت المصارف مهتمّة أيضاً بإقفال الحسابات ذات الأرصدة المحدودة أو الحركة الضعيفة، للحؤول دون استخدامها لاحقاً في استقبال أي ودائع جديدة. كما أصبحت المصارف حريصة على التضييق على عمليّة إيداع الشيكات، لمنع أي زيادة في حجم الودائع الموجودة لديها.

لا يمكن فصل كل هذه التطوّرات عن استحقاق شباط المقبل، الذي وضعه مصرف لبنان كمهلة أخيرة للمصارف للامتثال لمتطلبات إعادة الرسملة، قبل وضع اليد على المصارف غير الممتثلة تمهيداً لدمجها بمصارف أخرى

بالإضافة إلى كل ذلك، ثمّة أسباب إضافيّة تدفع المصارف اليوم إلى الحد من عدد الحسابات الموجودة لديها. فمصرف لبنان عمد منذ أشهر إلى تقنين السيولة بالليرة اللبنانيّة التي يزوّد القطاع المصرفي بها، وهو ما دفع المصارف إلى تحديد سقوف شهريّة منخفضة لسحوبات عملائها بالليرة اللبنانيّة. وبالتالي فكل حساب مصرفي بات يمثّل للمصارف اليوم عبئاً إضافياً، من خلال كوتا السحب التي يستفيد منها، سواء عبر سحب السيولة من الودائع بالليرة اللبنانيّة، أو عبر السحب من حسابات الدولار بالليرة وفقاً للتعميم 151.

لذلك، ولتقليص سقوف السحب النقدي الشهريّة، أصبح كل مصرف مهتم بتقليص عدد الحسابات المصرفيّة القائمة قدر الإمكان، من خلال دفع أصحاب الحسابات إلى إقفالها، بالإضافة إلى الامتناع عن فتح الحسابات الجديدة إلا في حالات الضرورة القصوى. كما صارت المصارف تتشدّد في قبول الشيكات، بما فيها الشيكات بالليرة اللبنانيّة، لتقليص حجم السيولة المسحوبة نقداً بالليرة من الحسابات. مع العلم أنّ حسابات توطين الراتب أصبحت تمثّل بالنسبة للمصارف العبء الأكبر، لأنها تمثّل مصدر استنزاف شهري ثابت لسيولتها النقديّة.

مشاكل اللبنانيين المستجدّة مع المصارف طالت حتّى الدولارات الطازجة التي وردت إلى حسابات العملاء. فقد طلبت بعض المصارف من عملائها تجميد قسم منها على نحو مفاجىء ودون سابق إنذار. مع العلم أنّ هذا النوع من المخالفات يأتي أيضاً في سياق التعامل مع متطلبات إعادة الرسملة، إذ تحاول المصارف من خلال هذه الإجراءات تكوين سيولتها في المصارف المراسلة، من خلال وضع اليد على جزء دولارات المودعين الطازجة.

تمثّل كل هذه الإجراءات مخالفات صريحة لتعليمات لجنة الرقابة على المصارف، وخصوصاً مذكرة لجنة الرقابة التي صدرت في تشرين الأوّل الماضي، ونصّت على منع رفض شيكات العملاء أو فرض تجميد قيمة هذه الشيكات، وقرار اللجنة رقم 281 الذي يتناقض مع فكرة فرض عمولات ضخمة ومفاجئة غير متفاهم عليها بين المصرف والعميل. علماً أن تعاميم مصرف لبنان تمنع كذلك المسّ بالدولارات الطازجة، التي وردت إلى الحسابات بعد تشرين الأوّل 2019.

لتقليص سقوف السحب النقدي الشهريّة، أصبح كل مصرف مهتم بتقليص عدد الحسابات المصرفيّة القائمة قدر الإمكان، من خلال دفع أصحاب الحسابات إلى إقفالها، بالإضافة إلى الامتناع عن فتح الحسابات الجديدة إلا في حالات الضرورة القصوى

لكنّ المشكلة الأساسيّة بحسب مصارف مصرفيّة مطلعة، تكمن في عدم معرفة الغالبيّة الساحقة من العملاء بهذه التعاميم أو حتّى بإمكانيّة التوّجه إلى لجنة الرقابة لمعالجة أمر هذه المخالفات. كما تشير المصادر إلى مشكلة أخرى تتعلّق بمحدوديّة الكادر البشري في لجنة الرقابة على المصارف نفسها، وهو ما يمنعها من متابعة عدد المخالفات الهائل في المصارف.

إقرأ أيضاً: القروض المتعثّرة أكلت 69% من رساميل المصارف

في مقابل كلّ هذه المخالفات، يبقى الغائب الأبرز هو اللجنة المصرفيّة العليا في المصرف المركزي، التي لم يصدر عنها حتّى اللحظة أي تنبيه أو إنذار على خلفيّة المخالفات المتعلّقة بالعمولات المستجدة وضغوط المصارف على المودعين لإقفال الحسابات، بالإضافة إلى مشاكل رفض الشيكات والمسّ بالدولارات الطازجة.

في الخلاصة، كان من المفترض أن يكون مسار إعادة رسملة المصارف باباً لإعادة الانتظام في القطاع المصرفي، وتعويم القطاع من جديد، وهو ما كان يمكن أن يمثّل “بشارة” خير لأصحاب الودائع. لكنّ الطريقة التي أطلقت فيها المصارف عمليّة إعادة الرسملة حوّلتها إلى كابوس موصوف بات يقلق راحة أصحاب الودائع بمختلف شرائحهم. أما المطلوب، فهو تدخّل المصرف المركزي السريع لمعالجة أمر هذه المخالفات، كي لا يكون عملاء المصارف ضحيّة إعادة رسملتها، بعد أن كانوا ضحيّة تعثّرها خلال الأشهر الماضية.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…