“حراك مهسا”: طهران قلقة والمرشد يُنذر بالصدام

مدة القراءة 7 د

يقودنا الحذر، وأحياناً بشكل مفرط، إلى عدم الاستسلام للتقارير الغربية الراصدة للتحرّكات الشعبية في إيران المندلعة منذ مقتل الشابة مهسا أميني في 16 أيلول. حتى إنّ الصور من داخل إيران أو تلك التي تبثّها منابر المعارضة تبقى بالنسبة إلى المراقب أعراضاً يسترشد بها من دون أن يقع في فخّ استشراف مآلات انفعاليّة متعجّلة.

شهد نظام الجمهورية الإسلامية منذ عام 1979 تحرّكات شعبية اعتراضية أخذت أشكالاً مختلفة، محلية قومية أو شاملة، واتّسمت بطابع مطلبي تارة، وآخر سياسي تارة أخرى. ونذكر أنّ الانتفاضة الخضراء عام 2009 انفجرت احتجاجاً على نتائج الانتخابات المشكوك فيها التي أعادت محمود أحمدي نجاد رئيساً، وكانت شاملة لافتة مقلقة، لكنّها انتهت بحملة قمع شديدة وباحتجاز قادتها ووضع بعضهم تحت الإقامة الجبريّة حتى الآن.

تكرّر أمر حراك الشارع لاحقاً، ولا سيّما في عامَيْ 2017 و2018، غير أنّ أدوات القمع التابعة للنظام أظهرت قدرة على وأد التحرّكات من دون ظهور أيّ ضغوط خارجية فاعلة تقلق طهران.

لم تبدِ طهران قلقاً من حراك بدا من عاديّات علاقة النظام بالمجتمع. ولم تُظهر المنابر الرسمية توجّساً من جديدٍ سبق أن قُمع قديمُه وانتهى

فُهِم أنّ برودة واشنطن في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما إزاء “الانتفاضة الخضراء” كانت متّسقة مع أجواء تُعِدّ لتوصُّل مجموعة الـ “5+1” مع طهران إلى اتفاق فيينا الشهير المتعلّق ببرنامج إيران النووي في عام 2015. وأظهر الموقف الدولي لاحقاً الحرص على عدم التدخّل في شؤون إيران الداخلية، إلّا شكليّاً، بغية المحافظة على “فيينا” وإنقاذه لاحقاً بعد قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب سحب بلاده من تلك الصفقة عام 2018.

 

إيران بين القمع الداخليّ وعدم الاكتراث الخارجيّ

وسط هذه المسلّمات (قمع داخلي وعدم اكتراث خارجي) اندلعت التحرّكات الأخيرة ردّاً على مقتل فتاة في مركز للشرطة لاتّهامها بـ”عدم التقيّد الصارم بمعايير الحجاب”. جاءت رواية السلطات المعنيّة لاحقاً مستهينة مرتبكة مستفزّة فأثارت مزيداً من الغضب في صفوف المحتجّين الذين كان الطابع النسائي طاغياً عليهم ومحرّكاً وقائداً.

لم تبدِ طهران قلقاً من حراك بدا من عاديّات علاقة النظام بالمجتمع. ولم تُظهر المنابر الرسمية توجّساً من جديدٍ سبق أن قُمع قديمُه وانتهى. حتى إنّ المسؤولين الرسميين، ولا سيّما وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، أبدوا تفهّماً بليداً لحراك “بعض الناس”، وراحوا يصوّبون البوصلة نحو ما يرونه أكثر أهمية، سواء الصراع مع الولايات المتحدة في مسألة المفاوضات في فيينا أو متابعة شؤون علاقات الدولة مع إفريقيا وأميركا اللاتينية وبحث مستقبل إيران في مجموعة “بريكس” ومنظمة شنغهاي.

على مدى 10 أسابيع حافظ الخطاب الرسمي وشبه الرسمي نسبيّاً على هدوء ورصانة وتروٍّ في التعبير عن الموقف من الاحتجاجات. ومَن يستمع إلى ضيوف الفضائيات المطلّين من طهران كان يستغرب هذه “السماحة” في الحديث عن الظاهرة بصفتها “تعبيراً صادقاً” عن قلق صادر عن “الطبقة المتوسطة” وتعكس تطلّعات “جيل الشباب”. صحيح أنّ آلة القمع كانت تعمل مخلّفة قتلى وجرحى واعتقالات وأحكاماً بالإعدام (أكثر من 400 قتيل و17 ألف معتقل حسب منظمات حقوقية)، لكنّ الخطاب الرسمي بقي، للعجب، مهوِّناً من أمر الحراك مهتمّاً بابتكار روايات عن مسيّرات إيران في أوكرانيا بين النفي القاطع والتبرير المتأخّر والركيك.

 

إيران تصدّر أزمتها إلى الخارج

غير أنّ توتّر سلوك طهران فضح خطورة حراك الشوارع في طهران ومدن البلاد الكبرى من حيث سعي النظام إلى تصدير مأزقه. وجّهت الآلة الأمنيّة ضرباتها باتجاه الحركات الكردية المعارِضة في إيران، وقصفت الآلة العسكرية مواقعها في إقليم كردستان شمال العراق، فيما أوحت طهران من خلال تحرّك قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني وبثّ صور حشود عسكرية إيرانية متوجّهة إلى الحدود الغربية بالعزم على تدخّل برّيّ ضدّ أكراد إيران المتمرّدين في العراق. تهدف طهران هنا إلى شدّ نظر الرأي العامّ نحو العامل الكرديّ “الإرهابي” الذي وجب أن لا ينجرّ بقية الإيرانيين وراءه (مهسا أميني كرديّة القومية). 

وإذا ما أرادت طهران تكديس أعراض تصدير الأزمة إلى الخارج، حتى في تحرّك ميليشياتها لقصف مواقع أميركية في العراق وسوريا، لكنّ جسارة الحراك الداخلي دفعت إلى ظهور واجهات مرونة، سواء في المبادرة التي اقترحها الرئيس الأسبق محمد خاتمي لإطلاق حوار مع المحتجّين أو في ما خرجت به، على نحو لافت، المجلّة الأسبوعية “صبح صادق” التابعة للمكتب السياسي للحرس الثوري من تأييد مبادرة الرجل والثناء عليها.

 

“إصلاحيّو” إيران هم مخرجها من الأزمة

كان خاتمي اعتبر في 14 تشرين الثاني أنّ الإطاحة بالجمهورية الإسلامية “أمر غير ممكن وغير مقبول”، داعياً إلى الحوار مع المتظاهرين. وإذا ما كانت دعوة خاتمي طبيعية بحكم سمعته الإصلاحية المعتدلة، إلا أنّ تلك المرونة انسحبت على وجوه محسوبة على المحافظين دعوا بدورهم إلى التفهّم والحوار.

تحدّثت أنباء عن لقاءات جمعت محسن وفاطمة، وهما من أبناء الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني، بشخصيات وازنة داخل النظام، منها مجتبى خامنئي نجل المرشد، وهو ما كشف عن ميل نحو الانفتاح على وجوه إصلاحية أو معتدلة لإيجاد سبل للخروج من مأزق الحراك الشعبي. تشكّكت جهات في تلك الأنباء، لكنّها أكّدت أنباء أخرى في هذا السياق عن لقاء رئيس المحكمة العليا غلام حسين محسني إيجئي وسكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني مع شخصيات إصلاحية اقتُرح فيه لقاء المرشد بخاتمي. لكنّ مصادر قريبة من خاتمي أعلنت لاحقاً رفض المرشد الاجتماع مع الرئيس الإصلاحي الأسبق.

 

تدخُّل المرشد الغاضب

يظهر تصاعد توتّر النظام في ما عبّر عنه رأس الدولة المرشد علي خامنئي. إذ يفضح تأمّل وتحليل خطابه، السبت، حالة القلق الجدّيّ التي استدعت تدخّلاً عاجلاً غاضباً من أعلى مستوى في النظام قد يكون مقدّمة، ربّما أكثر دموية، للكيفيّة التي ستتعامل بها طهران مع المحتجّين. يُظهر خطاب المرشد أيضاً ابتعاداً عن واقع إيران في عالم اليوم وإنكاراً لتطوّر أجيالها واستعانةً بخطاب متقادم حول العمالة والخيانة وأصابع الخارج.

أتت مواقف المرشد في تخوين الحراك واتّهامه بالعمالة متّسقة مع ما وصف به حراك “تشرين” في العراق ولبنان عام 2019. وكانت تلك المواقف آنذاك مقدّمةً لموجة اغتيالات طالت ناشطين في العراق ولتحرُّك الميليشيات لقمع التظاهرات هناك، ولتحرُّك “القمصان السود” ضدّ المتظاهرين في لبنان. 

إقرأ أيضاً: مهسا أميني وثورة الإيرانيات… النظام يرد بنار الأمن

وجاءت مواقف المرشد متناقضةً مع أجواء المرونة التي ادّعاها الحرس ومنابر محافِظة عبر تبنّي سعي خاتمي إلى الحوار، وربّما معارضةً لها. وتطرح إشادتُه بقوات الباسيج والإيحاء بدورها المقبل أسئلةً عمّا إذا كان تحريك هذه الميليشيا المدنية يُظهر تبايناً مع مؤسّسات أمنيّة وعسكرية أخرى، مثل الجيش والشرطة، فيما يفاخر علي فدوي نائب قائد الحرس الثوري بسياسة “ضبط النفس” التي تعتمدها قوّاته. أمّا تكرار أسطوانة الشيطان الأكبر والاستكبار، فتكشف عن كساد بضاعة انتهت صلاحيّتها ولم تعد تجد لها سوقاً لا لدى المنتفضين ولا لدى مؤسّسات السياسة والحكم في البلاد، وتكشف أيضاً عن نفاد ذخائر “الثورة” في تبرير الوجود وضرورات البقاء.

 

*كاتب لبناني مقيم في لندن

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…