رياض سلامة يدير الفراغ ويهندس “التصفية المحلّيّة” للأزمة

مدة القراءة 7 د

ليس الفراغ الرئاسي وحده ما يجعل الإدارة الماليّة والنقدية تؤول إلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بل إنّ جملة ظروف تقود إلى هذه المحصّلة، وتتيح للرجل تنفيذ هندسته للخروج من الأزمة على طريقته وبشروطه.

في موازاة الفراغ الرئاسي حكومة تصريف أعمال، ليس بوسعها الاجتماع إلا في حالات استثنائية ليس من بينها التدخّل في ما يفعله سلامة، وثمّة شبه فراغ في وزارة المالية، بوجود وزير لم تعد المرجعية التي عيّنته واثقة به. وقد بدا ذلك في جلسات مناقشة الموازنة في مجلس النواب، إذ حُرِم الوزير يوسف خليل من إكمال مداخلته، وتولّى النائب علي حسن خليل التصريح للصحافيين بلسان الوزارة، كما لو أنّ الأصيل ينحّي الوكيل.

في ظلّ تلك الطبقات من الفراغ في الإدارة المالية والاقتصادية، تجتمع الخيوط بيد سلامة لا ليدير الفراغ فقط، بل ليهندس “خطّة الأمر الواقع” لتطبيع الأوضاع بعد الأزمة المالية والنقدية.

عنوان التطبيع هو هندسة “التصفية المحلّية” للأزمة من دون اتفاق مع صندوق النقد الدولي، ما دام الاتفاق معه لا يلائم الأطراف الثلاثة المعنيّة بأيّة خطّة للخروج من الأزمة: مصرف لبنان والبنوك والطبقة السياسية.

الموضوع الأساسي للصراع أنّ البنوك تريد تقاسم خسائر الأزمة بين الدولة والمودعين من دون الاقتراب من رؤوس أموال المصارف

للتذكير، فقد حدّد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على مستوى الخبراء “إجراءات مسبقة” (prior actions) يتوجّب على لبنان تنفيذها قبل عرض الاتفاق على مجلس إدارة صندوق النقد الدولي. وقد مرّت سبعة أشهر إلى الآن منذ الإعلان عن الاتفاق في نيسان الماضي، لم يتحقّق خلالها إلا إقرار التعديلات على قانون السرّية المصرفية، بعد عناء، وإقرار موازنة 2022 في الشهر العاشر من السنة! أمّا البنود الأهمّ فليس في الأفق ما يشير إلى تقدّم يُذكَر بشأنها، ولا سيّما “استراتيجية إعادة هيكلة البنوك” وإقرار “قانون المعالجة الطارئة للمصارف” في مجلس النواب، وإجراء “تقييم لأكبر 14 بنكاً، بمساعدة خارجية وبالاتفاق مع شركة دولية ذات سمعة قويّة”، فضلاً عن إقرار الحكومة لخطّة ماليّة متوسّطة المدى واستراتيجية لإعادة هيكلة الدين، وتوحيد سعر الصرف، وإقرار قانون “الكابيتال كونترول”.

 

لا بوادر لاتفاق مع “الصندوق”

تؤكّد المعلومات المتاحة من مصادر دولية أن لا بوادر لعرض الاتفاق على مجلس إدارة الصندوق في أيّ وقت قريب، بل إنّ تصريحات مسؤولي الصندوق توحي بأنّ القرضين الجدّيَّين في المنطقة هما قرضا مصر وتونس فقط، ولا يأتون على ذكر القرض اللبناني حين يعدّدون التمويلات المنجزة، مع أنّ الاتفاق في شأنه سابق بأشهر.

ليس الأمر تعثّراً لبنانياً معتاداً في التشريع أو إقرار الإصلاحات، بل هو قرار واعٍ بتمزيق الاتفاق، لأنّ شروطه تقلب موازين القوى الاقتصادية في البلاد وتعيد رسم خريطة القطاع المصرفي. فمنذ الإعلان عن الاتفاق بدأ الهجوم المنظّم عليه من لوبي المصارف، وعلى عرّابه نائب رئيس مجلس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال سعادة الشامي بوصفه “ممثّل صندوق النقد في الحكومة اللبنانية وليس العكس”.

الموضوع الأساسي للصراع أنّ البنوك تريد تقاسم خسائر الأزمة بين الدولة والمودعين من دون الاقتراب من رؤوس أموال المصارف، فيما ترجّح منهجية صندوق النقد الدولي أن تكون رساميل المصارف الأولى في تحمّل الخسائر، ثمّ الودائع، ثمّ الدولة.

وحين بدا أنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ونائبه أقرب إلى منهجية صندوق النقد، بدأت الحملة المضادّة، وآتت مفعولها سريعاً، إذ تراجع ميقاتي وأطفأ محرّكات حكومته، فتجمّد البحث في خطّة التعافي وخطّة إعادة هيكلة البنوك وتقييم البنوك الكبرى. وربّما يكون عدم تشكيل حكومة قبل نهاية العهد الرئاسي مفيداً لتمرير ما بات يُطلق عليه اسم “خطّة الظلّ” للخروج من الأزمة، وهو المسمّى الملطّف لخطّة “الأمر الواقع”، كبديل عن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.

ربّما يكون عدم تشكيل حكومة قبل نهاية العهد الرئاسي مفيداً لتمرير ما بات يُطلق عليه اسم “خطّة الظلّ” للخروج من الأزمة

ليلرة الودائع… وسقف السحوبات

تلك الخطّة تقضي بـ”ليلرة” الودائع مع تطبيق سقف شهري للسحوبات، وإبقاء الانفصام قائماً بين ما هو مسجّل في دفاتر البنوك وحقيقة ما تعترف به من التزامات في الواقع الملموس. فالبنوك تعترف على الورق بما يقارب 100 مليار دولار من الودائع بالعملة الأجنبية، وستظلّ تسجّلها في دفاترها، ولا حاجة إلى إعلان شطبها أو تنفيذ “هيركت” عليها رسمياً. يكفي أن يقتنع المودعون بالممارسة أنّها لم تعد موجودة إلا في حدود ما تسمح به تعاميم مصرف لبنان من مسكّنات، إمّا بسحب 400 دولار شهرياً، أو بالليلرة على سعر يقلّ عن سعر 8,000 ليرة للدولار، أي بمزيج من هيركت 80% مع تطبيق سقف للسحوبات. وما لا تذيبه تعاميم مصرف لبنان تتكفّل به تجارة الشيكات، تحت أنف مصرف لبنان وبرعايته.

الإجراء الوحيد الممكن في فترة الفراغ هو تعديل سعر صرف “الليلرة”، ليصبح 15 ألف ليرة بدلاً من 8,000، بحيث يصبح معدّل الهيركت 60% بدلاً من 80%، للّحاق جزئياً بتراجع سعر صرف الليرة على مدى العامين الماضيين. وتلك خطوة للبنوك ومصرف لبنان مصلحة فيها للتخفيف من سخط المودعين، لكنّ هذا الإجراء سيؤجَّل مرّة أخرى لكسب بعض الوقت في عملية تذويب الودائع.

يقول منطق لوبي المصارف: ما دام المودعون تأقلموا مع هذا النظام بعد سنوات من تطبيقه، فما الداعي إلى الإعلان جهارة أنّ ودائعهم طارت؟ لا بأس بأن يظلّ المودعون يُقنعون أنفسهم بأنّ ودائعهم ستعود إليهم، ولو جزئياً، تماماً كما أقنع أصحاب الإيجارات القديمة أنفسهم على مدى ثلاثين عاماً بأنّهم لا يزالون يملكون شققهم ومحلّاتهم!

كان هناك افتراض بأنّ للبنوك مصلحةً في الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، لأنّ البديل هو إفلاسها لأنّها لن تستطيع تلبية طلبات السحوبات. لكن بات واضحاً أنّها تجاوزت هذا القلق، بعدما استكملت كلّ حلقات إغلاق أبوابها في وجه المودعين:

– مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف لا يُلزمانها بالدفع، ولا يحيلان أيّ بنك متخلّف عن أداء الودائع إلى الإفلاس.

– القضاء لحق بهما، وهو يغطّي عمليّات إغلاق حسابات المودعين المتمرّدين، وعمليّات الليلرة والهيركت، خلافاً لصريح القانون.

– بقي مصدر القلق القانوني الوحيد في الملاحقات الخارجية، وهذا ما حاولت البنوك التصدّي له من خلال تمرير قانون مفخّخ للكابيتال كونترول، بالتوازي مع تصفية تدريجية للحسابات في الخارج.

– وآخر مصدر قلق غير قانوني هو اقتحامات المودعين للبنوك، وهذه تواجَه بمزيج من إجراءات قضائية وأمنيّة، وعقوبات جماعية للمودعين من خلال إغلاق الفروع في وجههم، إلا بموعد مسبق.

 

“بنوك سيّئة” و”بنوك جيدة”

في ظلّ هذا النظام، تحوّل نموذج عمل البنوك فأصبح معتمِداً بشكل كامل على الرسوم والأتعاب، بدلاً من صافي إيرادات الفوائد، الذي هو مصدر الدخل الأساسي لأيّ قطاع مصرفي طبيعي. وربّما هذا ما يفسّر قرار مصرف لبنان خفض الفائدة على توظيفات البنوك لديه إلى النصف.

تعرف البنوك أنّها “زومبي”، وهي لا تبالي بذلك، وحالها في ذلك من حال مصرف لبنان الذي يعلن كلّ أسبوعين أرقاماً خرافية لموجوداته ومطلوباته، بفضل سعر الصرف الرسمي الذي يقلّ عن السعر الحقيقي بـ 96%، ولا وظيفة له سوى تزوير الواقع النقدي والمصرفي. وما دام الأمر متّفقاً عليه بين مصرف لبنان والبنوك وأركان الحكم، فلا حاجة إلى موافقة المودعين.

إقرأ أيضاً: انخفاض الدولار: وهم الانفراج بعد رحيل عون

المشكلة في خطّة “الأمر الواقع” هي أنّ البلاد ليس فيها بنك واحد يقوم بالوظيفة الطبيعية للقطاع المصرفي، أي استقبال الودائع وتوفير التمويل للقطاعين العام والخاص. وهذا يمنع تطبيع الوضع المالي وعودة الدولة إلى أسواق الدين لتمويل إنفاقها.

لذلك سيكون السؤال التالي لصاحب الخطّة: هل من طريقة لفصل القديم عن الجديد، من خلال “بنوك سيّئة” و”بنوك جيدة”، تماماً كما تمّ الفصل بين “الإيجارات القديمة” و”الإيجارات الجديدة”؟

عندما يتمّ ذلك ستطمئنّ البنوك إلى أنّها نجت من دفع فاتورة الأزمة، وسيعرف أصحاب الودائع أنّ مدّخراتهم انتهت.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…