هل تستحقّ نهاية عهد ميشال عون احتفالاً من نوع انخفاض الدولار ستّة آلاف ليرة دفعة واحدة؟
أتت شرارة انخفاض الدولار من إعلان مصرف لبنان التوقّف عن شراء الدولار عبر منصّة صيرفة، وحصر عمليّاته فيها ببيع العملة الصعبة. تأثير القرار نفسيّ محض، فالمنصّة ليست مصمّمة أصلاً لبيع الدولار إلى البنك المركزي. إذ مَن هو المجنون الذي يبيع الدولار بسعر يقلّ عن سعر السوق الموازية بعشرة آلاف ليرة؟! وما بات شائعاً أنّ مصرف لبنان يستخدم آليّات أخرى غير منظورة لشراء الدولار بسعر السوق الموازية، وليس بسعر صيرفة. وهذه لم يقُل مصرف لبنان عنها شيئاً.
لكنّ منطق السوق يقول إنّ سوق القطع متخمة بالنقد اللبناني، بعدما ضخّ مصرف لبنان نحو 25 ألف مليار ليرة خلال أربعة أسابيع لشراء الدولارات التي جمعتها البنوك خلال أشهر الصيف. وستُتخم السوق بالمزيد من الليرات في الأسابيع المقبلة مع بدء تنفيذ قانون الموازنة الذي أقرّه مجلس النواب، بما فيه من زيادة الرواتب ورفع الدولار الجمركي إلى 15 ألف ليرة.
الملهاة أنّ هناك من يقدّم ما يجري لسعر الصرف بوصفه إشارة إلى نوع الانفراجات الآتي بعد خروج عون من القصر، ثمّ يربط الأمر باتفاق ترسيم الحدود البحرية، ثمّ يعطفه على الوعود بإعادة تشغيل معامل الكهرباء لتوفير عشر ساعات من التغذية يوميّاً.
ما حصل أنّ السيولة الدولارية التي أتى بها المغتربون في الصيف دخلت جزئياً وببطء إلى النظام المالي من خلال البنوك، ولم تنعكس على الفور تحسّناً في احتياطات مصرف لبنان
ربطاً بذلك، يُشاع الكثير عن رغبة من يعنيهم الأمر بالتدخّل في سوق القطع لخفض الدولار بعد خروج عون من القصر، على نحو ما حصل حين انخفض الدولار بنحو 30% قبل أسابيع من الانتخابات النيابية. وهذا ممكن نظريّاً باعتبار أنّ احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تبلغ عشرة مليارات دولار، من دون محفظة اليوروبوندز، التي يُقدّر أن 80% منها سيولة قابلة للاستخدام.
وبملاحظة أنّ الاحتياطيات انخفضت بنحو 2.8 مليار دولار منذ بداية العام حتى منتصف تشرين الأول، فإنّ وتيرة الاستنزاف الحالية تسمح بالاستنتاج أنّ بإمكان مصرف لبنان، نظريّاً، التدخّل لتحقيق التوازن في سوق القطع لأشهر مقبلة، بغضّ النظر عن مدى أخلاقية تدخّل كهذا فيما ميزانيّته منكشفة على مطلوبات تناهز 80 مليار دولار للبنوك التي تتنكّر لمودعيها.
من أين أتت الـ417 مليون $؟
إلّا أنّ المتغيّر اللافت الذي خلط الأوراق هو ارتفاع احتياطات مصرف لبنان الأجنبية بشكل مفاجئ بنحو 417 مليون دولار في الفترة ما بين منتصف أيلول ومنتصف تشرين الأول الجاري. وهو ارتفاع بدا غريباً في توقيته بعد انتهاء موسم الاصطياف، خصوصاً أنّ احتياطات مصرف لبنان فقدت 1.4 مليار دولار في أشهر ذروة الصيف، حزيران وتموز وآب، فيما كان المغتربون يملأون البلاد. فما الذي تغيّر بعد رحيلهم؟
يظهر التفسير في رقمين:
1- ارتفاع حجم الكتلة النقدية المتداوَلة خارج مصرف لبنان بنحو 25 تريليون ليرة خلال الفترة نفسها، بين منتصف أيلول ومنتصف تشرين الأول، ووصولها إلى 69.7 تريليون ليرة.
2- ارتفاع صافي الموجودات الأجنبية في البنوك خلال حزيران وتموز وآب بنحو 422 مليون دولار.
ما حصل أنّ السيولة الدولارية التي أتى بها المغتربون في الصيف دخلت جزئياً وببطء إلى النظام المالي من خلال البنوك، ولم تنعكس على الفور تحسّناً في احتياطات مصرف لبنان. وما فعله هذا الأخير أنّه أصدر كميّة هائلة من النقد، تفوق نصف النقد المتداوَل أصلاً، لشراء الدولارات التي جمعتها البنوك صيفاً.
رفعت هذه العملية احتياطات مصرف لبنان، لكنّها أدّت إلى قفزة هائلة لمعروض النقد بالليرة، وهو ما أدّى إلى تجاوز سعر صرف الدولار أربعين ألف ليرة قبل التراجع الأخير. الآن يسير مصرف لبنان في الاتجاه المعاكس، إذ يعمل على تعقيم السوق من فيض معروض الليرة، لكنّ مهمّته لن تكون سهلة مع بدء تطبيق زيادة رواتب القطاع العامّ.
لعبة الوهم النفسيّة
إلّا أنّ مصرف لبنان يتقن اللعبة النفسية، ويوهم العامّة أنّ انخفاض الدولار لن يتوقّف كي يدفع أصحاب المدّخرات إلى بيع ما لديهم من العملة الخضراء، وتلك لعبة تكرّرت مراراً في السنوات الثلاث الماضية.
لكن في انخفاض الدولار ما يتجاوز تكتيكات رياض سلامة. ففي اللحظة السياسية الراهنة ما يداعب أحلام العامّة بالانفراج المباغت. في العقل اللبناني الباطن حلم دائم، أو وهم، بأنّ اتّفاقاً بين القوى الكبرى سيأتي في لحظة ما ليفتح المغاليق، فتتدفّق المليارات والاستثمارات ويعود السيّاح. تهرب البلاد من واقعها إلى حلم يشبه ليلة اتفاق الطائف، أو انفراجة اتفاق الدوحة، أو حين أتى رفيق الحريري ضارباً بسحر عصاه الدولار ووسط بيروت المدمّر وكآبة المدينة.
داعب اتفاق ترسيم الحدود البحرية المخيّلات. قيل إنّه نهاية الحصار، وإنّه سيفتح الباب لتدفّق الاستثمارات من شركات الغاز العالمية، وإنّه نهاية المعاناة الاقتصادية والماليّة. لا يتعلّق الأمر بحجم الغاز في حقل قانا، بل بالاعتقاد أنّ التسويات تفتح أبواب الفرج.
في هذه الآمال عطبان:
الأوّل عدم توافر مادّة جدّيّة لتسوية جديدة في الداخل في ظلّ تفتّت القوى في مجلس النواب، وتشظّي التمثيل السنّيّ، هذا من دون التطرّق إلى صعوبة إنضاج التسويات في الإقليم.
إقرأ أيضاً: سداد القروض السكنيّة: رائحة الفساد دائماً..
والثاني أنّ الآمال الوردية تقفز فوق حقائق الأزمة المالية – الاقتصادية، وتتعامل معها كما لو أنّها عارض لأزمة سياسية ينتهي بانتهائها. يتهيّأ لمن شاء أن لا أزمة ماليّة في لبنان، بل إنّ الأمر حصارٌ دوليّ ينتهي باتفاق نوويّ بين الغرب وإيران، أو غضبٌ إقليميّ يمكن أن ينتهي بانتهاء عهد التحدّي.