في تزامن لافت وربّما مقصود مع توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية وإطلاق عمليات التنقيب عن الغاز، أعلنت مصر على لسان وزير البترول والثروة المعدنية طارق الملا التوصّل إلى “اتفاق إطار” لتسوية النزاع على حقول الغاز في بحر غزّة. فهل يشكّل ذلك دليلاً جديداً على دور غاز شرق المتوسط في إنضاج التسويات الصغرى في إطار التسوية الإقليمية الكبرى، و”تصفية حساب” روسيا في المنطقة؟
فلسطين أمام فرصة تاريخية للتوصّل إلى اتفاق يضمن بدء استغلال ثروتها الغازية التي تفنّنت إسرائيل في دفنها أو سرقتها لأكثر من 20 عاماً، وتفنّن “أشاوس الممانعة وأبطال التطبيع” من الفصائل والسلطة الفلسطينية في تعطيل استغلالها. تتمثّل هذه الفرصة في تقاطع معطيات جيوسياسية تتعلّق بتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا وحاجة أميركا إلى إعادة ترتيب أوراقها في المنطقة، وبتطوّرات أسواق الطاقة وحاجة أوروبا إلى مصادر بديلة للغاز الروسي، إضافة بالطبع إلى حاجة إسرائيل الملحّة إلى الاستقرار لاستغلال ثروتها الغازية وتصديرها.
بدأ تعطيل استغلال غاز غزّة منذ اكتشاف الحقلَيْن الأوّلين “مارين 1″ و”مارين 2” في عام 2000. وقد فاز بتطويرهما كونسورتيوم مكوّن من “بريتش غاز” البريطانية وشركة اتحاد المقاولين CCC وصندوق الاستثمار الفلسطيني
لتوضيح أهميّة هذه التقاطعات، فإنّ “اتفاق الإطار” الذي أعلنه الوزير المصري هو “تذكير” أو تطوير للاتفاق التاريخي الذي تمكّنت مصر من فرضه على إسرائيل في شهر شباط 2021، والمتمثّل في توقيع مذكّرتَيْ تفاهم مع “فلسطين” لاستغلال حقول الغاز في “بحر غزّة”. تتعلّق الأولى بالتعاون بين مصر وفلسطين في مجال الطاقة، وأمّا الثانية فكانت بين الجهتين المالكتين لامتياز حقل “غزّة مارين”، وهما صندوق الاستثمار الفلسطيني وشركة اتّحاد المقاولين CCC من جهة، وشركة “إيغاز” المملوكة للحكومة المصرية من جهة أخرى. وتنصّ المذكّرة على أن تتولّى شركة “إيغاز” تطوير الحقل لتوفير احتياجات فلسطين من الغاز الطبيعي مع إمكانية نقل جزء من الإنتاج إلى مصر لتسييله وإعادة تصديره إلى الخارج وتحويل العوائد المالية مباشرة إلى الفلسطينيين، وهو الهدف نفسه حرفيّاً لاتفاق الإطار الذي تمّ توقيعه أخيراً.
طبعاً تمكّنت إسرائيل بمساعدة “أشاوس الممانعة وأبطال التطبيع” من تعطيل تنفيذ مذكّرة التفاهم، إذ أعلنت حركة حماس معارضتها للمذكّرة فور توقيعها لأنّها “تمّت من وراء ظهر أهل غزّة ولم يشاركوا فيها”، كما قال في حينه عضو المكتب السياسي للحركة موسى أبو مرزوق، فردّ له “الصاع صاعين” عضو اللجنة المركزية لحركة فتح حسين الشيخ بقوله إنّ “الاتفاقيّات تتمّ بين دول، وليس بين دول وفصائل”، وكانت النتيجة تعطيل تنفيذ المذكّرة وعدم استغلال الغاز.
تعطيل مزمن
بدأ تعطيل استغلال غاز غزّة منذ اكتشاف الحقلَيْن الأوّلين “مارين 1″ و”مارين 2” في عام 2000. وقد فاز بتطويرهما كونسورتيوم مكوّن من “بريتش غاز” البريطانية وشركة اتحاد المقاولين CCC وصندوق الاستثمار الفلسطيني. لكنّ إسرائيل أعاقت بدء العمل فقامت “بريتش غاز” ببيع حصّتها إلى شركة “شل” بعد وعد إسرائيلي بالسماح لها باستغلال الحقل. إلا أنّ الوعد لم يتحقّق، فاضطرّت “شل” إلى الخروج من المشروع في نيسان 2018، فقام صندوق الاستثمار الفلسطيني وشركة اتحاد المقاولين بزيادة حصّتَيْهما إلى 55 في المئة موزّعةً مناصفة بينهما، على أن تُباع الحصّة الباقية إلى شركة عالمية لاحقاً. والمرجّح أن تتولّى شركة “إيغاز” ترتيب بيع هذه الحصّة، استناداً إلى تصريح الوزير طارق الملا بعد توقيع “اتفاق الإطار” بأنّه “سيُشكَّل كونسورتيوم من الشركات المتخصّصة تحت مظلّة شركة “إيغاز” لتطوير الحقل”.
معضلات تواجه المشروع
يواجه الاتفاق معضلتين كبيرتين، الأولى عدوانية إسرائيل تجاه فلسطين وسعيها إلى مصادرة جزء من ثروتها الغازية، والثانية عدوانية الفصائل الفلسطينية بعضها تجاه بعض وسعي كلّ منها إلى الاستئثار بالثروة و”بالانتصار”، حتى لو أدّى ذلك إلى ضياع الثروة.
فلسطين أمام فرصة تاريخية للتوصّل إلى اتفاق يضمن بدء استغلال ثروتها الغازية التي تفنّنت إسرائيل في دفنها أو سرقتها لأكثر من 20 عاماً
بالنسبة إلى المعضلة الأولى يبدو أنّ “الأشاوس والأبطال” قرأوا رسالة ترسيم الحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية، وفهموا أنّ غاز شرق المتوسط لم يعد “سلعة في بازار الصراع الإقليمي”، بل بات عنصراً في مسار التسويات والاستقرار. وعليه ربّما باتت حركة حماس أقرب إلى الموافقة على “اتفاق الإطار” لأنّها جزء من المفاوضات بشأنه ولم يتمّ استبعادها كما في الاتفاق الأوّل، وذلك ما عبّر عنه أحد المسؤولين المصريين بقوله إنّ “القاهرة على اتصال دائم مع مسؤولي “حماس” بشأن حقل الغاز”. يجد هذا التحوُّل في موقف الحركة صداه، وتحديداً في قرارها الوقوف “على الحياد” خلال حرب إسرائيل على الجهاد الإسلامي في آب الماضي.
أمّا المعضلة الثانية، المتعلّقة بسعي إسرائيل إلى التعدّي على حقل “غزّة مارين”، فقد لا يكون حلّها سهلاً. إذ ربطت موافقتها على المشروع بمشاركتها فيه والحصول على جزء من عائداته الماليّة. وهو ما ذكرته صراحة هيئة البثّ الإسرائيلية الرسمية “كان”، بقولها إنّ “مصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية اتّفقت على أنّ العائدات المالية لحقل الغاز ستعود إلى السلطة الفلسطينية وإسرائيل”. وقد نفى ذلك الوزير طارق الملا ورئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، معتبرين أنّ المحادثات التي عقداها مع مسؤولين إسرائيليين تتعلّق بتسهيل تنفيذ الاتفاق وعدم عرقلته. ووصف رئيس الوزراء الأنباء الإسرائيلية عن “اتفاق مصري فلسطيني إسرائيلي لاستخراج الغاز” بأنّه “غير دقيق”. ونقلت وكالة رويترز عن مسؤول فلسطيني قوله: “الاتفاق مع مصر لتطوير الحقل لم يذكر إسرائيل على الإطلاق، ولن ندفع لها أيّ حصّة من عائدات حقل يخصّنا وحدنا”.
الصيّادون يكتشفون بئراً للغاز
تكتسب مواجهة التعدّي الإسرائيلي أهميّتها ليس فقط بالنظر إلى حجم احتياطيات حقل “غزّة مارين”، المقدّرة بحوالي 1.5 تريليون قدم مكعّب، والتي تكفي احتياجات كلّ فلسطين بضفّتها وقطاعها لمدّة 15 عاماً، بل بالنظر أيضاً إلى ما أكّدته عدّة دراسات جيولوجية من وجود 8 حقول كبيرة للغاز في بحر غزّة وعلى عمق لا يتجاوز 600 متر. الطريف أنّ أحد هذه الحقول اكتشفه صيّادو الأسماك الذين لاحظوا تسرّباً دائماً للغاز على شكل فقاقيع على سطح الماء.
الدور المصريّ
لا بدّ من التنويه هنا بالدور الحاسم الذي تلعبه مصر في مواجهة محاولات التعدّي الإسرائيلية، ودعم موقف فلسطين لتحصيل حقوقها من خلال تحصين الاتفاقيات الموقّعة بقوّة القانون الدولي، إذ حرصت على إسناد التوقيع بعضويّة فلسطين كدولة مؤسّسة في منتدى غاز شرق المتوسط على قدم المساواة مع مصر وإسرائيل، وبوضعيّة فلسطين منذ العام 2012 كدولة غير عضو في الأمم المتحدة، وهو ما يتيح لها أن تكون عضواً في الاتفاقات الدولية التابعة للأمم المتحدة، ومن ضمنها اتفاقية قانون البحار. وهذا يؤكّد حقّها في إبرام اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية واستغلال الموارد الطبيعية. ومصر ستحقّق جملة أهداف، من أبرزها تعزيز موقعها السياسي في قطاع غزّة بوجه النفوذ الإيراني الملتبس، وتكريس دورها كمركز إقليمي لتسييل وتجارة الغاز، والحصول على مصدر إضافي للغاز لتشغيل محطّتَيْ التسييل في دمياط وإدكو.
إقرأ أيضاً: “الهيدروجين الأبيض” سلاح أميركا ضدّ النفط و”أوبك بلاس”
وحدة الموقف الفلسطيني مدعوماً بقوّة ورقة الدعم المصري، والموقف الحاسم لأميركا وأوروبا بفرض الاستقرار في شرق المتوسط لتسهيل استخراج وتصدير الغاز، كفيلان بوضع حدّ للأطماع الإسرائيلية في غاز فلسطين, خاصة إذا تمكّنت السلطة والفصائل من تجاوز خلافاتهم وأحسنوا إدارة المفاوضات بموقف موحّد، واستخدام كلّ أوراق القوّة المتاحة، ومن بينها التلويح بالصواريخ لاستهداف منصّات الغاز إذا تطلّب الأمر ذلك. إسرائيل كما “أشاوس الممانعة وأبطال التطبيع” قرأت وفهمت رسالة الترسيم البحري مع لبنان، هذا إذا لم تكن مشارِكة أصلاً في كتابتها، وقرأت وفهمت أنّ التطوّرات والمعطيات الجيوسياسية باتت تفرض عليها تقديم تنازلات.