يندر أن يوجد بلد في العالم تكثُر فيه الدعوات إلى “حوار وطني” كما هي الحال في لبنان الذي تتقدمه الإنقسامات السياسية أفقياً وعامودياً. بعضٌ من هذه الجمهورية موجود في بلدان هذا الشرق، لكن بوتيرة أخف. مشكلة المجتمعات التي ما نجحت أن تصير دولاً هو افتقادها إلى “وطنية سياسية” في وقت تتسيّد هويات دينية ومذهبية وعرقية على ما عداها.
بقاء حكومة تصريف الأعمال وعدم تشكيل حكومة جديدة وعدم التوصّل إلى انتخاب رئيس جديد ضمن المهلة الدستورية، سيُدخل البلاد في فوضى سياسية ودستورية قد تمتدّ إلى فوضى أمنيّة ومعيشية واجتماعية
لبنان ماضياً وراهناً اتسمت سيرته بالإنقسامات وبالدعوات إلى “الحوار الوطني”. دائماً كان الحوار المنشود مشوباً بعيب الداخل المُتخاصم. الحوار، في الشكل والمضمون، مطلوب بين متخاصمين. أما أن يكون بين أبناء وطن واحد فهذا يستثير الكثير من السخرية الممزوجة بالمرارة.
هذا لا يعني أبداً ، القفز فوق الدعوة إليه. ذلك ان البديل هو الإنسداد السياسي الذي قد يذهب بالبلد وأهله. قد يقول قائل ـ وعن حق ـ إذا كان الحوار الوطني ضرورة راهنة في لحظة محلية ـ إقليمية ـ دولية شديدة العسر، فالأصل السياسي له هو أن يكون بين متعادلين، وليس بين غالب ومغلوب لأنه ساعتئذ ما على الثاني إلا أن يوقع على وثيقة “الأمر الواقع. لكن ما ينفي ذلك ويطرده هو مجموعة متغيرات تقاطعت عفواً عند بعضها البعض ، ومع بعضها البعض.
المتغيرات المستجدة كثيرة وعلى هذا القدر من الأهمية. وهي متغيرات تحمل الكثير من الإيجابية بوجه أُخرى فيها شيء من القلق. الإيجابي هو في تغير الأحجام وطوطبيعة اللغة السياسية عند الغالب من القوى البرلمانية. والأهم في هذا ما أعلنه أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله حول الاستراتيجية الدفاعية. وكذلك مبادرة النواب “التغييريين”. اما المقلق فيتمثل بوقوف لبنان أمام استحقاقات دستورية ومتصلة بالإنتخابات الرئاسية وملف تشكيل الحكومة، ناهيك عن موضوع الترسيم مع العدو الإسرائيلي لحفظ الثروات الغازية والنفطية. وثاني عوامل القلق مصدرها رفض الموجود دستورياً وسياسياً من دون بديل حقيقي يتوافق عليه اللبنانيون، فيما لبنان ليس على قائمة الاهتمام الدولي.
الخوف من الإنفجار الكبير
في ظلّ تفاقم الأزمات الداخلية والمخاوف من انفجار كبير في الأسابيع المقبلة وانشغال العالم عنّا، لم يعد هناك خيار أمام اللبنانيين سوى الذهاب إلى الحوار الوطني. هذا ما تؤكّده عدة جهات سياسية ومرجعيات دينية لبنانية ناشطة في مجال الحوار، وتسعى إلى التخفيف من حدّة الاحتقان الداخلي، ولا سيّما بعد المبادرة التي أطلقها “نواب التغيير” بشأن الاستحقاق الرئاسي.
عدم الذهاب إلى الحوار اليوم وترك الأوضاع تتفاقم سيؤدّيان إلى المزيد من التدهور في ظلّ تزايد الدعوات إلى التقسيم والفدرالية، ودعوة الجهات الدولية إلى إقامة منطقة لبنانية محرّرة بإشراف دولي
تورد هذه الجهات والمرجعيات عدّة أسباب جوهرية من أجل إطلاق الورشة الحواريّة الداخلية:
– أوّلاً: إنّ واقع المجلس النيابي اليوم وتوزُّع القوى الداخلية فيه يمنعان أيّة كتلة أو تحالف نيابي من التحكّم بمعركة الرئاسة أو إيصال مرشّح رئاسي مدعوم من جهة واحدة، وهو ما يفرض التوافق بين القوى السياسية والنيابية على أحد المرشّحين ودعمه وفقاً لبرنامج إنقاذي واضح.
– ثانياً: إنّ بقاء حكومة تصريف الأعمال وعدم تشكيل حكومة جديدة وعدم التوصّل إلى انتخاب رئيس جديد ضمن المهلة الدستورية، سيُدخل البلاد في فوضى سياسية ودستورية قد تمتدّ إلى فوضى أمنيّة ومعيشية واجتماعية، وهذا ما بدأنا نشهده في العديد من المناطق اللبنانية اليوم، وقد نشهد المزيد من الفوضى في الأيام المقبلة، ولا سيّما في ظلّ تراجع دور الجيش اللبناني والأجهزة الأمنيّة وعدم القدرة على ضبط الأوضاع الأمنيّة.
– ثالثاً: إذا كان البعض يعتبر أنّ وجود سلاح حزب الله عائق أمام أيّ حوار حقيقي، فلا بدّ من الملاحظة أنّ الحزب يرسل اليوم رسائل إيجابية للجميع ويعلن استعداده لمناقشة كلّ الملفّات، ومنها الاستراتيجية الدفاعية، ولا يطرح أيّ مشروع سياسي لتغيير النظام، ويؤكّد التزامه باتفاق الطائف، ولا يطرح أيّ مرشّح لرئاسة الجمهورية، ويبدي الاستعداد للحوار في أيّ مشروع يُطرَح اليوم، ويمدّ يده للحوار مع الجميع (طبعاً باستثناء القوات اللبنانية بسبب تداعيات أحداث الطيّونة). وهناك معلومات أنّ عدّة جهات معارضة تنشط للحوار مع الحزب بعيداً عن الأضواء.
– رابعاً: إنّ الأطراف الدولية والإقليمية والعربية المعنيّة بالشأن اللبناني غير مستعدّة اليوم لاستضافة أيّ مؤتمر حواريّ وطني، فهي مشغولة بملفّات إقليمية وداخلية، ولا فائدة من انتظار المفاوضات ذات الصلة بالملفّ النووي الإيراني أو المفاوضات السعودية – الإيرانية أو الإيرانية – العربية لأنّ كلّ هذه المفاوضات تحتاج إلى وقت لحسمها، ومن غير الواضح مدى انعكاساتها على الواقع اللبناني.
– خامساً: تشكّل مبادرة نواب التغيير المتعلّقة بالاستحقاق الرئاسي مدخلاً إلى الحوار مع كلّ الأطراف اللبنانية، ويمكن لنواب التغيير التواصل مع الجميع من دون استثناء والتوصّل إلى رؤية مشتركة تجمع أكبر عدد من النواب والكتل النيابية، وفي ضوء ذلك طرح اسم المرشّح الرئاسي المناسب أو أكثر من اسم لاختيار أحدهم.
– سادساً: إنّ عدم الذهاب إلى الحوار اليوم وترك الأوضاع تتفاقم سيؤدّيان إلى المزيد من التدهور في ظلّ تزايد الدعوات إلى التقسيم والفدرالية، ودعوة الجهات الدولية إلى إقامة منطقة لبنانية محرّرة بإشراف دولي. سيُدخل كلّ ذلك البلاد في صراعات جديدة ستفرض الذهاب لاحقاً إلى مؤتمر وطني بإشراف دولي أو عربي، فلماذا لا نستفيد من التجارب السابقة ونستبق التطوّرات ونذهب إلى الحوار أحراراً ومن دون ضغوط خارجية كي لا نذهب لاحقاً إلى الحوار بسبب التطوّرات الأمنيّة وتدهور الأوضاع، وتُفرض علينا الحلول الخارجية؟
إقرأ أيضاً: باسيل: العونيون إلى الشارع وفرنجية أحد الأهداف
في ضوء كلّ هذه المعطيات تؤكّد هذه الجهات السياسية والمرجعيات الدينية الحوارية ضرورة المسارعة إلى إطلاق ورشة حوارية وطنية بين كلّ الأطراف، ولا يعني ذلك عقد مؤتمر للحوار الوطني حول طاولة واحدة، بل يمكن التحاور ثنائيّاً وصولاً إلى تبنّي مشروع موحّد.
فهل يستكمل النواب التغييريون مبادرتهم ويطلقون هذه الورشة الحوارية الوطنية مع كلّ الأطراف أم يبقى ما طرحوه موقفاً سياسيّاً يُضاف إلى بقيّة المواقف السياسية ووجهات النظر المتّصلة بالاستحقاق الرئاسي؟