أبو ظبي- نواكشوط.. صوت السلام من موريتانيا

مدة القراءة 8 د

كان العلّامة الشيخ عبد الله بن بيّه سبّاقًا حين أبدى  شكوكه إزاء مآلات الثورات العربية المعاصرة. كان ذلك قبل سنوات، وكانت كلماته حاسمة في التعبير عن القلق مما هو كائن، ومما قد يكون.. قال الشيخ: “الثورات التي أمامنا.. هى حروب تدميرية، وتقطيع للأرحام، وتشتيت للأمّة”. ودعا الشيخ إلى عودة الأمن والسلام، وأعادَ إلى الأذهان حديثًا لم يعد متردّدًا.. رغم وروده في البخاري – عن أنّهُ من الإيمان “بذل السلام للعالم”. وحسب الشيخ بن بيّه: “العالم هو كل ما سوَّى الله”..  “وعلى ذلك فالعالم يشمل كل الموجودات والكائنات”.. “والإسلام يتضمن السلام للعالم.. للإنسان وللبيئة معًا”.

 

زيارة إلى موريتانيا

في الثامن من شهر شباط 2022 قمت بزيارة موريتانيا، بدعوة من “منتدى أبوظبي للسلام” برئاسة العلامة الشيخ عبد الله بن بيه. وذلك لحضور “المؤتمر الأفريقي للسلام” الذي انعقد في العاصمة نواكشوط، برعاية الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.

كان عنوان المؤتمر هو ذلك النصّ في حديث الإمام البخاري: “بذل السلام للعالم”. وحين حضرتُ كلمة الرئيس محمد بازوم رئيس النيجر في ختام المؤتمر، وسمعته يقول: “السلام هو صورة الإسلام”، أدركتُ أنّ الحضور جميعًا، يسلكون نهجًا واحدًا، ويتحدثون لغة واحدة: السلام هو جوهر الإسلام.

الشيخ العلامة عبد الله بن بيّه هو واحدٌ من كبار العلماء في القرنيْن العشرين والحادي والعشرين

في زيارتي إلى موريتانيا سعدتُ بصحبة وزير الأوقاف المصري الدكتور محمد مختار جمعة، ومستشار الرئيس للشؤون الدينية الدكتور أسامة الأزهري. وهناك التقيتُ نخبة من علماء ووجهاء وحكماء القارة الأفريقية.

 

هنا نواكشوط

أقرّ المجتمعون في موريتانيا إنشاء مقرّ رئيسي للمؤتمر الأفريقي للسلام في نواكشوط، كما أوصوا بتأسيس “جائزة أفريقيا لتعزيز السلم”، واستحداث لجنة للحوار والمصالحات والتنمية.

مثل هذه الآليات لها أهمية بالغة في تفكيك حالة الإحباط المتصاعدة في القارة، كما أنّ انطلاقها من مؤسسات عربية وأفريقية يساعد كثيرًا في تحجيم الأطماع والأغراض الخارجية، التي باتت تتصارع في كل ركن من أركانها.

أتذكر لقائي مع الرئيس الموريتاني قبل عامين. كان ذلك في أبو ظبي. وكان الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في زيارة رسمية لدولة الإمارات. وكانت رؤية الرئيس أنّ المشكلة الأساسية في دول الساحل والصحراء هي التنمية، ومن ثم فإنّ العمل على محور الأمن من دون محور التنمية.. لن يقود إلى شيء.

قلتُ للرئيس وقتها: “هناك غضب واضح لدى شعوب المنطقة، والرأى العام بدأ يشعر باليأس”. وكان تقدير الرئيس أن أسباب الغضب تكمن في انهيار الاقتصاد وشظف العيش، فإذا كان الأمن أساسيًّا في حماية الحياة، فإنّ الغذاء والملبس والمسكن، وكذلك التعليم والصحة.. هم الحياة ذاتها.

ثم قال الرئيس: “نحن إحدى دول الساحل والصحراء، لكنّنا لسنا جزءًا من المعارك الدائرة. غير أنّ استمرار تدهور الأوضاع يخلق المزيد من الضغط والتوتر في المنطقة”.

لا يجد الرئيس الموريتاني في أحداث ليبيا شأنًا بعيدًا. إذ يرى أنّ عدم استقرار ليبيا يمتدّ تأثيره ليخلق ضغوطًا كبيرة باتجاه الجنوب والغرب.. وأنّ ذلك سيضاعف من أسباب عدم الاستقرار في منطقة الساحل والصحراء.

تقدير الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هو أيضًا تقدير مراكز دراسات ترى أنّ تلك المنطقة الجيوسياسية الهشّة، يمكنها أن تواصل الانهيار.. إذا لم يتم ضبط الأمور.

قال الرئيس: “الأمر لا يتعلق بالإرهاب فحسب.. بل يتعلق أيضًا بالجريمة المنظمة، من تجارة المخدرات والسلاح والبشر”.

يحاول الرئيس إعادة بناء الرؤية الموريتانية من أجل مستقبل أفضل لبلاده، ولمحيطه. الرئيس ليس قلقًا بشأن الأمن في بلاده، وقد خاضَ معارك القضاء على الإرهاب من قبل، ويعرف جيدًا كيف يحافظ على ما تم إنجازه. وفي كلمته خلال “المؤتمر الأفريقي للسلام 2022″، أضاف الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الجانب الفكري إلى جانبي الأمن والتنمية في مثلث مكافحة الإرهاب.

 

العلّامة بن بيّه.. السلام كإيديولوجيا

ألقى العلامة الشيخ عبد الله بن بيّه الكلمة الافتتاحية لـ”المؤتمر الأفريقي للسلام” في نواكشوط، وقد جاءت الكلمة امتدادًا لمشروعه الرصين.. المكافح للكراهية والإرهاب، والداعي للأمن والسلام.

الشيخ العلامة عبد الله بن بيّه هو واحدٌ من كبار العلماء في القرنيْن العشرين والحادي والعشرين.. ولد في موريتانيا، وكان والده قاضيًا مرموقًا ورئيسًا لمؤتمر العلماء الموريتانيين.. ومناضلاً عظيمًا ضد الاستعمار.

واصَلَ العلامة بن بيّه سيرة الوالد في الدين والسياسة.. فتولّى عدة حقائبَ وزارية، وشارك في العديد من المؤسسات والهيئات الدولية. ويواصل عطاءه الثمين عبْر رئاسته مجلس الإفتاء بدولة الإمارات العربية المتحدة، وعبْر قيادته المعرفية الرفيعة لمنتدى أبو ظبي للسلام.

حظى الشيخ باهتمام عالمي لسنوات طويلةٍ، ثم زاد الاهتمام بفكر الشيخ بعد أن استشهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما في كلمةٍ له بالجمعية العامة للأمم المتحدة بإحدى مقولات العلاّمة الموريتاني.. وقد راجتْ في كل مكان حول العالم الجملة الذهبية التى اختارها أوباما. يقول الشيخ: “يجب أن نعلن الحرب على الحرب.. لتكون النتيجة سِلمًا على سِلْم”.

يُحظى الشيخ بن بيْه باحترامٍ واسع في الدوائر الإسلامية.. يصِفه البعض بـ”العالم الربّاني المجدِّد”.. ويثني الكثيرون على رؤيته في التسامح والسلام.. وحسب تعبير أحدهم: “إنه يجمع ولا يفرِّق.. ويُنير ولا يثير”.

يحظى الشيخ بن بيّه باحترام واسع لدى مسلمي العالم، وتحتل آراؤه وفتاواه مكانةً رفيعةً لدى الأقليات المسلمة في أوروبا وأمريكا

ابن تيمية..  وقتل السادات

أثارت آراء الشيخ في التصوف غضبًا لدى الأوساط المحافظِة.. لكنه مضَى في طريقه يقول: “التصوّف هو أحد العلوم الإسلامية.. وتجديد التصوّف ووضعه في صحيح إطاره.. هو إحياءٌ لعلوم الدين.. ذلك أنّ العلماء قد قاموا بتأصيل لهُ كما أصّلوا في الفقه”.. “إنّ ابن تيمية كان مجدِّدًا في التصوّف.. كما أنّ ابن القيّم، كان مجدّدًا هو الآخر في كتابه “مدارج السالكين”.

أثارتْ آراءٌ أخرى للعلامة بن بيّه الأوساطَ الجهاديةَ غيْر أنّه مضَى أيضًا يوضِّح ويشرح: “تقسيم العالم الإسلامي إلى داريْن: دار الإيمان ودار الكفر.. كان لهُ سياقهُ التاريخي.. حيث كان المغول يغيُرون على أراضي المسلمين وبلدانهم.. والآن يجب إعادة النظر في ذلك على ضوء التغيّرات السياسيّة”.. “فتوى ماردين التركية قبل (700) عام والتي قال بها الشيخ ابن تيمية قد تم تحريفها لتصبح أساس فتاوى الجهاد والولاء والبراء.. لقد تمّ التحريف أثناء الطباعة.. إلى: “يُعامَل المسلم بما يستحقه، ويُقاتَلُ الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقّه”.. وقبل التحريف كان النص: “يُعامَل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه”.. ثم تغيّرت كلمة “يُعامَل” إلى “يقاتل”.

أصدر الشيخ المحفوظ بن عبد الله بن بيّه كتابًا بعنوان “ابن تيمية وقتل السادات”، وفي ذلك الكتاب المهم الذي صدر عن “مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجية”.. يروي الأستاذ المحفوظ  قصة تصحيح “أخطر خطأ مطبعي في التاريخ”.

 

الدولة الوطنية في الإسلام

انطلق الشيخ العلامة عبد الله بن بيّه في مشروعه التجديدي.. إلى القضية الأكثر صعوبة وإرباكًا.. إلى قضية “الخلافة” و”الدولة الوطنية”.. وإلى الأرواح التي زهقت في بلاد المسلمين في الطريق إلى تحقيق “الخلافة”.

قال الشيخ: “إن راية الخلافة التي يحملها المتطرفون.. رايةٌ وهميةٌ، ولا تقومُ على أسسٍ شرعيةٍ”.. “إن دولة الخلافة هى صيغةُ حُكمٍ غير ملزمة.. ولا يجوز نزع الشرعية من الدولة الوطنية”.. “في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانت توجد دولة أخرى على رأسها ملكٌ مسلم.. هو النجاشي الذي أسلم، وتركه النبي صلى الله عليه وسلم في مُلكِهِ هناك في الحبشة، ولم يأمرهُ بالهجرة أو المجيء إليه”.. “لقد تجاوز علماؤنا ذلك، وذكروه في باب الجنائز.. حين أطلعَ الله نبيّهُ غيبًا على وفاة النجاشي.. فقام وكبَّرَ أربع تكبيرات عليه”.. “إنّ دولة الخلافة وهم.. وقتل النفوس من أجلها لا مبرّر له شرعيًّا”.

إقرأ أيضاً: مستقبل البشر: بين العلماء الأشقياء والعلماء النبلاء

يحظى الشيخ بن بيّه باحترام واسع لدى مسلمي العالم، وتحتل آراؤه وفتاواه مكانةً رفيعةً لدى الأقليات المسلمة في أوروبا وأمريكا، وفي عام 2009 احتل موقعًا بارزًا من بين الشخصيات الإسلامية الأكثر تأثيرًا في العالم بحسب استطلاع جامعة جورج تاون.. ويلخِّص عنوان كتابه “خطاب الأمن في الإسلام”.. قيم المشروع الفكري للعلاّمة بن بيّه.. وتحمل أحاديثه طريقًا رئيسيًا بارزًا: انتقال المسلمين من وضع “الأمة الخائفة” إلى وضع “الأمة الآمنة”.. ومن “جغرافيا الدم” إلى “جغرافيا السلام”.

 

*كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور..

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

مواضيع ذات صلة

الحروب ليست حلّاً…  

عالم الحروب اليوم أعمق وأخطر، وقد وصل إلى قلب أوروبا بهجمة روسيا على أوكرانيا عام 2022 التي استمرّت حتى اليوم. وكأنّما كانت إسرائيل تنتظر مسوِّغاً…

“الحزب” يتموضع مسبقاً شمال اللّيطاني؟

يتحضّر “الحزب” لـ”اليوم التالي” للحرب. لا يبدو أنّ بقيّة لبنان قد أعدّ عدّة واضحة لهذا اليوم. يصعب التعويل على ما يصدر عن حكومة تصريف الأعمال…

كيف استفاد نتنياهو من تعظيم قدرات الحزب للانقضاض؟

كلّما زار آموس هوكستين بيروت في الأشهر الماضية، كان المسؤولون اللبنانيون وبعض المتّصلين به من السياسيين يسرّبون بأنّها “الفرصة الأخيرة”. لكنّه ما يلبث أن يعود،…

نتنياهو هزم الجنرالات…

ما حكاية الخلاف الشديد بين بنيامين نتنياهو وجنرالات الجيش والأمن في إسرائيل؟ لماذا يبدو أبطال الحرب أقرب إلى التسويات السياسية مع الفلسطينيين، بل مع حلّ…