99 عاماً وما يزال الرفاعي حارساً للجمهوريّة

مدة القراءة 7 د

اجتاز العلّامة الدستوري والقانوني حسن الرفاعي هذا الأسبوع عتبة الـ 99 عاماً. وإذا كانت العادة تقتضي إطفاء 99 شمعة، فإنّ ذكرى ميلاد الرفاعي تضيء عتمة لبنان الذي يغرق في ظلام انهيار المؤسّسات. فالرفاعي، الذي يجب أن يقدِّم له الوطن الهدايا، آثر في ميلاده أن يقوم هو بتقديم الهدايا لوطنه عبر إرشادات دستوريّة من بحر علمه وخبرته من أجل اجتياز لبنان مأزق الانتخابات الرئاسية الذي ينذر بشرّ مستطير كحال العهد الحالي الذي شارفت ولايته على نهايتها.

قال الرفاعي: “دوَّن المرحوم والدي بخطّ اليد على هامش مخطوطة مصحف تاريخ ميلادي: صباح يوم الخميس الواقع فيه الثالث والعشرون من آب سنة 1923”. وبعد هذا العمر المديد يقول: “إنّ الأوطان تُبنى باحترام قوانين الدولة كلّ يوم، على أن يلتزم تنفيذها الحاكم والمسؤول قبل المواطن. تقوم الدولة على دستور يقبله الجميع ويحترمونه، وعلى إدارة تخدم المواطن كي تفرض عليه تأدية الواجبات”.

بين الولادة وعمر الـ 99 سيرة قال فيها البروفسور جوزيف مايلا أستاذ العلاقات الدولية في جامعات باريس: “سيبقى حسن الرفاعي من بين كلّ رجال السياسة ذاك الذي عرف بدفاعه عن القانون أن يدافع عن “شرف الجمهورية” المنتهك بتجاهل القانون إن لم يكن بالاعتداء عليه”. أضاف: “من بين كلّ المهتمّين بالقضايا العامّة كان كالحكماء القيّمين على استقامة القانون وحسن تطبيقه في اليونان القديمة وروما”.

اجتاز العلّامة الدستوري والقانوني حسن الرفاعي هذا الأسبوع عتبة الـ 99 عاماً. وإذا كانت العادة تقتضي إطفاء 99 شمعة، فإنّ ذكرى ميلاد الرفاعي تضيء عتمة لبنان

المدافع عن “شرف الجمهورية”

عندما أُتيحت الفرصة أن يفوز الرفاعي عن جدارة في الانتخابات النيابية عام 1968، ويبقى لغاية عام 1992 في البرلمان، كان من حظّ لبنان أن يحظى بمن وصفه مايلا بمدافع حتى اليوم عن “شرف الجمهورية” الذي ما زال يتعرّض لانتهاك لا مثيل له. عن هذه التجربة النيابية المديدة، يقول الرفاعي: “أدركت طوال مسيرتي النيابية كم كنت عاشقاً للديمقراطية الممزوجة بالحرّية، وهو ما صعّب عليّ الانتماء إلى أيّ حزب كي أبقى محافظاً على حرّيتي. أحببت العمل النيابي وفهمت كيف يجب أن يكون. كنت محظوظاً في تكوّن بداية حياتي النيابية في مجلس عام 1968 الذي تميّز بالقامات السياسية والعلمية الكبرى، وهو ما جعلني في موقع الاستفادة من هؤلاء الكبار، كما أفدت العمل النيابي بدوري بعلمي الدستوري والقانوني”.

من بين هذه القامات، التي أشار إليها الرفاعي عميد الكتلة الوطنية ريمون إدّه. ففي خلال مناقشة البيان الوزاري لحكومة الرئيس رشيد كرامي أواخر كانون الثاني عام 1969، لفتت الكلمة التي ألقاها الرفاعي العميد ريمون إدّه فهنّأه بعد انتهائه من إلقائها. وبحسّه المرهف رأى في الرفاعي رجل دولة، فخاطب كرامي ممازحاً: “لقد جاء من ينافسكم على رئاسة الوزارة”.

لم ينسَ الرفاعي أن يردّ التحيّة لكرامي في مراحل ومناسبات عدّة، من بينها خلال زيارة وفد من “الجبهة الديمقراطية النيابية” الشهابية لتهنئة الفريق حافظ الأسد بنجاح “الحركة التصحيحية” التي قادها الأسد في سوريا وأوصلته إلى الحكم عام 1971. وقد ضمّ الوفد الرئيس رشيد كرامي، خليل بشارة الخوري (نجل أوّل رئيس جمهورية للبنان بعد الاستقلال عام 1943)، جوزيف أبو خاطر، رينيه معوّض (الذي انتُخب رئيساً للجمهورية عام 1989 بعد مؤتمر الطائف وقُتل بانفجار في 22 تشرين الثاني من العام نفسه)، قبلان عيسى الخوري والرفاعي.

 

الرفاعي مع رشيد كرامي الحريص على استقلال لبنان

يروي الرفاعي أنّ أوّل المتكلّمين في اللقاء كان خليل الخوري فخاطب الأسد: “نحن يا سيادة الرئيس، من أصل عربي. ووالدي كان من مؤيّدي الوحدة العربية التي نريدها أن تتمّ اليوم قبل الغد”. ثمّ تبعه في الكلام أبو خاطر، فقال: “أنا مولود في سوريا يا سيادة الرئيس”، في إشارة منه إلى أنّه من البقاع، أي من الأقضية الأربعة التي سلخها الانتداب الفرنسي عن سوريا الطبيعية وضمّها إلى لبنان الكبير عام 1920. عندها التفت الأسد بنباهته المعهودة إلى كرامي الذي كان صامتاً في تلك الجلسة، وسأله: “لم نسمع رأيك يا دولة الرئيس؟”، فأجابه كرامي: “نحن في بلد ينتمي إلى الجامعة العربية ومواثيقها التي تنصّ على استقلال كلّ بلد. نحن من طلّاب الوحدة العربية، لكن بعد أن يسود جميع الدول العربية نظام ديمقراطي مثل نظام لبنان على أن يبقى لبنان آخر دولة عربية تنضمّ إلى كيان الوحدة العربية”. على أثر ذلك، سأل الرفاعي زميلَيْه رينيه معوّض وقبلان عيسى الخوري: “بالله عليكما من هو الأكثر حرصاً على استقلال لبنان؟”.

من القامات في ذلك الزمن الرئيس صائب سلام الذي حرص على أن يقرّب الرفاعي منه تقديراً لرسوخ الأخير في العلم الدستوري فلجأ مراراً إلى استشارته. وإذا ما اجتمع الرجلان في مناسبة كانت الأحاديث بينهما تدور على الثقافة والأدب والعلم والفنون والموسيقى الكلاسيكية. وفي إحدى المناسبات الاجتماعية، قال الرئيس تمّام سلام، نجل الرئيس صائب سلام، للرفاعي، وكان يومذاك وزيراً: “أنا أذكر أنّ المرحوم أبي كان يقول لي: أنا لم أتهيّب إلا عندما كان حسن الرفاعي يطلب الكلام في مجلس النواب، لأنّه كان على مستوى عالٍ من الثقافة والفهم”. فردّ الرفاعي: “وأنا كنت أبادل صائب بك الاحترام والتقدير”، مسجّلاً أيضاً لسلام قوّة الشخصيّة والحضور المميّز.

في كتاب “حارس الجمهورية” ـ مرجع المقال ـ هناك الكثير من سيرة الرفاعي. وإذا ما جرت مطابقة مرويّات السيرة مع راهن هذه القامة الدستورية والقانونية الشامخة، فسيكون هناك تأكيد متكرّر: حسن الرفاعي، إنّك حقّاً حارس الجمهوريّة

هذا غيض من فيض سيرة الرفاعي النيابية وما بعدها، وبخاصة ما يتّصل باتفاق الطائف الذي انبثق منه دستور لبنان بعد عام 1989. ونعود إلى البروفسور مايلا الذي قال في الرفاعي: “عُرف الرجل، كما اشتهر، بتفسيراته للدستور اللبناني. كرّس عمله في السياسة في خدمة الحياة البرلمانية والديمقراطية التي لا يتصوّر لبنان من دونها، وجعل من هذا العمل أولويّته ورسالته الوطنية. التزم الدفاع عن روح القانون ونصّه في بلد اشتهر بالالتفاف على القانون. قلّة من رجال السياسة والبرلمانيّين بوسعها مجاراته في احترامه العيش في كنف “الجمهورية” وفق قواعد الدستور. من كلّ القراءات القانونية التي أُتيح لي الاطّلاع عليها، تبدو لي قراءة حسن الرفاعي للطائف الأكثر صوابيّة والأكثر التصاقاً بالقانون عبر اعتمادها على آراء لعلماء فرنسيّين متخصّصين في دستور الجمهورية الثالثة التي أخذ منها الدستور اللبناني الكثير”.

محارب لا يهدأ

كيف برهن الرفاعي أنّه محارب لا يهدأ حتى اليوم دفاعاً عن دستور بلاده وقوانينها؟ في آخر إطلالته الإعلامية هذا الأسبوع قال: “لو كان رئيس الجمهورية (ميشال عون) ملتزماً بأحكام الدستور، لكنّا بغنى عن كلّ الاجتهادات لجهة تدخّله في تأليف الحكومة. أما وقد وضعنا أمام الحائط المسدود بين خيارين: إمّا أن نقبل بالفراغ، أو نقبل بالحكومة المستقيلة التي تصرِّف الأعمال تسدّ الفراغ، فنحن ملزمون بأن نحافظ على استمرارية الحكم. لذلك نسلّم بأن تقوم حكومة تصريف الأعمال بصلاحيّات رئيس الجمهورية عندما تنتهي ولايته”.

يعتبر الرّفاعي أنّ “الجهة التي اعتادت التعطيل هي للحزب والتيار الوطني الحرّ وحلف الممانعة. أمّا اليوم فيجب ألّا يلجأ إلى التعطيل أيّ نائب سياديّ أو تغييريّ، خاصّة بعدما نادى هؤلاء منذ سنة 2019 باستعجال رحيل الرئيس عون، وطالبوه بالاستقالة”.
إنّ 23 آب الجاري الذي بلغ فيه الرّفاعي عامه التاسع والتسعين يصادف أيضاً الذكرى الأربعين لمحاولة اغتياله في 22 آب 1982، ويعتبر الرفاعي أنّه قد بلغ اليوم عامه الأربعين وليس التاسع والتسعين. وفي سيرته أنّه كان طوال حياته يعمل بقول المهاتما غاندي: “إنّ الصدمة التي تصيبني ولا تميتني تزيدني قوّة”. عبارة ردّدها في أحلك الظروف وأدقّها يوم شاءت الإرادة الإلهية أن تنقذه من الموت المحتّم عند محاولة اغتياله لاحقاً.

إقرأ أيضاً: العلامة الرفاعي لـ”أساس”: لا وجود لمنصب نائب رئيس الوزراء في الدستور ولا في السراي

في كتاب “حارس الجمهورية” ـ مرجع المقال ـ هناك الكثير من سيرة الرفاعي. وإذا ما جرت مطابقة مرويّات السيرة مع راهن هذه القامة الدستورية والقانونية الشامخة، فسيكون هناك تأكيد متكرّر: حسن الرفاعي، إنّك حقّاً حارس الجمهوريّة.

مواضيع ذات صلة

حكاية دقدوق: من السّجن في العراق إلى الاغتيال في دمشق! (1/2)

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…