إخوان إيطاليا.. بعض الطرق لا تؤدّي إلى روما

مدة القراءة 6 د

يقولون في ميلانو: إفريقيا تبدأ من روما، ويردّون في روما: أجمل ما في ميلانو القطار المتّجه إلى روما، ويردّون في ميلانو: روما عاصمة إيطاليا بأموال ميلانو.

هكذا تمضي مناكفات المدن في الداخل الإيطالي.

 

الأمن والاقتصاد

الاقتصاد الإيطالي هو ثالث أكبر اقتصاد في أوروبا، لكنّ الديون الإيطالية هي ثاني أكبر الديون في القارّة. يأتي الاقتصاد ثالثاً بعد ألمانيا وفرنسا، وتأتي الديون ثانياً بعد اليونان.

في إيطاليا شمال غنيّ وجنوب مهمَل، ومتوسّط دخل الفرد في الشمال هو ضعف الدخل في الجنوب، ويهاجر الشباب من الجنوب إلى الشمال، ففي الشمال يوجد الأمل وفي الجنوب توجد المافيا. وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها السلطات فإنّ الحكومات المتعاقبة لم تنجح في إنهاء الجريمة المنظّمة.

في بيئة كهذه: اقتصاد يواجه أزمات، وأمن اجتماعيّ متدهور في جنوب البلاد، وصعد إلى السلطة حزب انفصالي يدعو إلى استقلال الشمال، ويستعدّ للسلطة حزب يمينيّ متطرّف يقول محلّلون إنّه يمثّل الفاشيّين الجُدد!

قاد الانقسام السياسي في إيطاليا إلى انقسام فكري، وقاد الانقسام الفكري إلى محاولات انقسام جغرافي، وبعدما كانت كلّ الطرق تؤدّي إلى روما تعثّر بعضها في الطريق إلى العاصمة

إيطاليا قريبة للغاية من العالم العربي، ولها علاقات تاريخية مع مصر، وهي حاضرة في ليبيا وأحداثها، والمسافة بين تونس وصقلّية لا تزيد على 145 كيلومتراً.

 

ممثّل كوميديّ يصل إلى السلطة

يسمع الذين يتابعون نشرات الأخبار اسم “حركة الخمسة نجوم” كثيراً. إنّها ليست حركة فندقيّة، بل حركة سياسية طغت على المشهد السياسي عام 2016 بعد فوزها في الانتخابات التشريعية.

تأسّست حركة الخمسة نجوم في وسائل التواصل الاجتماعي على يد ممثّل كوميديّ وصديق له يعمل في مجال الإنترنت، وأصبحت مدوّنة الممثّل هي مكان مساهمات الشباب، وقد قام بتشكيل الحركة فعليّاً عام 2009. في عام 2016 كان الصعود الكبير، وفي عام 2017 تزعّم الحركة “لويجي دي مايو” وهو في الثلاثين من عمره!

دخل دي مايو الحكومة وهو في الحادية والثلاثين، فأصبح وزير الخارجية في حكومة جوزيبي كونتي التي استقالت بداية عام 2022. وفي صيف 2022 ترك دي مايو الحركة وأسّس حزب “معاً من أجل المستقبل”. الخمسة نجوم التي تعنيها الحركة هي: التنمية المستدامة، والحقّ في الإنترنت، وتطوير شبكات المياه والنقل، والاهتمام بالبيئة. واليوم تواجه الحركة التصدّع والانشقاق، ولم تعُد بقوّتها السابقة.

 

نائب رئيس الوزراء لم يكمل دراسته

الحزب الذي شارك حركة “الخمسة نجوم” في السلطة هو “رابطة الشمال”. تأسّس ذلك الحزب الانفصالي الذي يدعو إلى استقلال الشمال الإيطالي في عام 1991، وفي عام 2018 أصبح ثاني أكبر الأحزاب السياسية، وشكّل الحكومة مع “الخمسة نجوم” تحت رئاسة كونتي.

زعيم حزب رابطة الشمال هو ماتيو سالفيني، وهو في الأربعينيّات من العمر. درس القانون لكنّه لم يكمل دراسته الجامعية، وانضمّ إلى حزب رابطة الشمال حتى أصبح نائب رئيس الوزراء ووزيراً للداخلية.

أبدى سالفيني إعجاباً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وبزعيمة اليمين المتطرّف الفرنسي مارين لوبان، وقام بتقليد ترامب في استخدام تويتر لتوصيل رسائله للرأي العام، ولديه على تويتر 600 ألف متابع، وعلى فيسبوك أكثر من 2 مليون متابع.


إخوان إيطاليا

أشهر سياسيّة في إيطاليا اليوم هي جورجيا ميلوني زعيمة “حزب إخوان إيطاليا”، وبالإيطالية “فراتيللي إيطاليا”. وقد تأسّس الحزب عام 2012، واسمه مأخوذ من النشيد الوطني الإيطالي في القرن التاسع عشر، بعد توحيد إيطاليا على يد غاريبالدي.

طبقاً لمعظم المحلّلين فإنّ حزب إخوان إيطاليا هو وريث الحركة الفاشية الإيطالية، وفيه بعض أفراد عائلة موسوليني. لكنّ السيدة ميلوني، التي تدرك أنّ المادة 12 في الدستور تمنع تأسيس حزب فاشيّ، بدأت إعادة التموضع استعداداً لزعامة البلاد.

وقفت ميلوني ضدّ الغزو الروسي لأوكرانيا، وطالبت إيطاليا بإرسال السلاح إلى كييف، وبدأت بإضعاف المجموعات الأكثر تطرّفاً في الحزب، وراحت تروّج لكون حزبها حزباً محافظاً، وهو المعادِل الإيطالي للحزب الجمهوري الأميركي.

 

نهاية الحزبين الكبيرين

تكمن المعضلة التي تعيشها إيطاليا في السياسة لا الاقتصاد، فأزمة الاقتصاد ناجمة عن أزمة السياسة، فهناك عدد كبير من الحكومات، وأعداد هائلة من الائتلافات والانشقاقات، ويبدو الاستقرار السياسي أمراً بعيد المنال، فمنذ نهاية نظام الحزبين الكبيرين: الاشتراكي والديمقراطي المسيحي، بدأ بركان حزبيّ ما يزال يلقي بحممه حتى الساعة. ولمّا وصل إلى السلطة اقتصاديّ عالمي رفيع المستوى مثل دراغي ماريو الشهير بـ”سوبر ماريو”، فشل في جمْع الأحزاب على أيّ مشروع، فكانت نهاية الحكومة.

واجهت إيطاليا أزمة 2008 المالية والاقتصادية، ثمّ أزمة كورونا، ثمّ أزمة أوكرانيا، وفيها حركات انفصالية شاركت في السلطة، وحركات فاشيّة تسعى إلى السلطة، وزعماء سابقون على مشارف التسعين مثل سيلفيو برلوسكوني يرغبون في الاستمرار في قيادة أحزابهم. هكذا يتشكّل مشهد سياسي معقّد لبلد كان يمثّل إمبراطورية عالميّة كبرى ذات يوم.

ربّما تحتاج إيطاليا إلى إلغاء النظام البرلماني، وإقامة نظام رئاسي، حيث يمكن ضبط هذه الصراعات الحزبية، ومنح الرئاسة السلطات الكافية للقيام بالإنقاذ والانطلاق. ويمكن حينئذ ردم الفجوة بين الشمال والجنوب، ومكافحة التطرّف والهجرة على أساس قانونيّ لا عنصري.

إقرأ أيضاً: بعد الظواهري.. من هو مستقبل القيادة المصريّة لـ”القاعدة”؟

لقد قاد الانقسام السياسي في إيطاليا إلى انقسام فكري، وقاد الانقسام الفكري إلى محاولات انقسام جغرافي، وبعدما كانت كلّ الطرق تؤدّي إلى روما تعثّر بعضها في الطريق إلى العاصمة.

معضلة إيطاليا هي معضلة كثيرين حول العالم.. السياسة والسياسيّون!

 

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…