التقيتُاثنيْن من سفراء السودان السابقين، قال أحدهم وهو يلخّص رؤيته: الأمر ببساطة هو أن الولايات المتحدة الأميركية فرضت علينا عقوبات والصين جاءت لنا بالاستثمارات، فمن نختار برأيك؟ وقال الثاني: الأمر ببساطة.. أميركا هي التي فرضت علينا العقوبات وعزلتنا عن العالم، وهي أيضاً التي يمكنها إلغاء العقوبات وإعادتنا للعالم.. فمن نختار برأيك؟
هنا تكمن واحدة من أبرز مفارقات السياسة السودانية، حيث يكمن المنطق الظاهري وراء كلّ اختيار، وتوجد وجهة نظر لكلّ مسار.
إنّها بالطبع مفارقة عامّة لا تنحصر في السودان وحده، لكنّ “فائض السياسة” السوداني، وزحام المحترفين السياسيّين في البلاد، يفاقمان من الظاهرة.
ليس السودان بلداً هامشيّاً يمكن تركه لمصيره دونما اكتراث، بل هو بلد استراتيجي مهمّ، ولا غنى عنه. ليس فقط بالمعايير الأخلاقية لبلد عربي إفريقي عزيز، بل بالمعايير الجيوسياسية لبلد يقع على البحر الأحمر
السودان الذي لا يمكن إغفاله
ليس السودان بلداً هامشيّاً يمكن تركه لمصيره دونما اكتراث، بل هو بلد استراتيجي مهمّ، ولا غنى عنه. ليس فقط بالمعايير الأخلاقية لبلد عربي إفريقي عزيز، بل بالمعايير الجيوسياسية لبلد يقع على البحر الأحمر، ويؤثّر في باب المندب، وعنده تجب مواجهة ملفّات الإرهاب والهجرة غير الشرعية. وهو إذْ يعاني من أزمة غذاء داخلية، بإمكانه أن يحلّ أزمة الغذاء العالمية. ثمّ إنّه يقع إلى جوار بلدين كبيرَيْن: مصر وإثيوبيا. في إثيوبيا هناك ثلاث مشكلات تعانيها: أزمة “سد النهضة”، الحرب الأهليّة، والنزاع مع السودان على منطقة “الفشقة” التي تحتلها.
يُضاف إلى ذلك كلّه أنّ المنافسة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا في إفريقيا، لا يمكنها العمل في شرق القارّة من دون السودان، ولقد تبدّى ذلك جليّاً في ما مضى من حقبة ما بعد الرئيس السابق عمر البشير.
في عهد البشير وقعت قطيعة مطوّلة مع واشنطن، وامتدّت خطوط أكبر مع بكّين. ففي التسعينيّات أعطت حكومة البشير الصين امتيازات للتنقيب عن البترول، الذي ذهب ثلاثة أرباع عائداته إلى الجنوب بعد إنفصاله عام 2011، وبقي الربع للسودان.
استغلّت الصين القطيعة السودانية الأميركية التي امتدّت معظم عهد البشير، وراحت تحلّ محلّ الولايات المتحدة، وكان الإحلال الصيني طبقاً لقاعدتها الأساسية في السياسة الخارجية: الاقتصاد بديلاً عن السياسة.
كانت أميركا منشغلة في حروب ما بعد هجمات 11 أيلول، التي امتدت من كابول إلى بغداد، فيما وكانت الصين تزحف في هدوء إلى القارّة التي لم تعُد في بؤرة الاهتمام الأميركي، ولمّا عادت واشنطن بعد سنوات طويلة، كانت بكين قد استقر وجودها.
طائرات صينيّة لسلاح الجوّ السودانيّ
في أزمة تايوان التي أعقبت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي للجزيرة، أعلن السودان وقوفه التامّ مع الصين، وقالت السلطات السودانية إنّ تايوان جزء لا يتجزّأ من الصين، “التي يحقّ لها فعل ما ترى من أجل الحفاظ على وحدة أراضيها”.
في الأثناء كانت الأخبار على الجانب الآخر في الصين تؤكّد التوصّل إلى اتفاق بشأن بيع طائرات مقاتلة صينية للقوات الجويّة السودانية.
يمتلك السودان 192 طائرة عسكرية، وعدداً من الطائرات المُسيّرة (بدون طيّار) أغلبها طائرات إيرانية، وتشير تقارير إلى قيام السودان بإدخال تعديلات على بعضها، توجهه لصناعة هذا النوع من الطائرات. أوّل طائرة بدون طيّار سودانية. ويمتلك السودان قمراً صناعياً واحداً، تمّ إطلاقه عام 2019، وهو قمر مدنيّ يعمل في مجال البيئة والزراعة واستكشاف الموارد.
تتعلّق الصفقة الجديدة بين السودان والصين بالطائرة الصينية المقاتلة “J-10″، وهي طائرة متعدّدة المهامّ، يمكنها إطلاق صواريخ تصل إلى 145 كلم، وقدرة رادارها على الرصد تصل حتى مسافة 170 كلم. وحسب خبراء عسكريين فإنّها تعادل الطائرات “إف 16” الأميركية، وميراج 2000 الفرنسية، وقد اشترت باكستان منها 80 طائرة.
بشكل عام يشكّل السلاح الصيني والروسي أساس التسليح السوداني، وقد زاد حجم السلاح الصيني في الآونة الأخيرة. لا يقف الأمر عند التسليح فحسب، إذْ يشير السفير الصيني في الخرطوم إلى أنّ الصين هي أكبر شريك تجاري للسودان، وأنّ هناك 130 شركة صينية تعمل في السودان، بينما تسعى استثمارات صينية جديدة للعمل في الموانئ والمطارات.
في شهر آذار من العام الجاري رحّبت الخرطوم بتعيين بكين مبعوثاً صينياً إلى القرن الإفريقي. وفي شهر حزيران الماضي أعلن السودان تدشين خطّ ملاحيّ مع الصين، فأصبح السودان مركزاً لوجيستيّاً مهمّاً للبلدان المجاورة، والبلدان الداخلية غير المشاطئة.
لا تشكّل الصين ضغطاً سياسياً في أيّ اتجاه، ولمّا وقعت أحداث تشرين الأول 2021، وهو ما اعتبرته الخارجية الأميركية انقلاباً عسكرياً، قالت الصين إنّها تدعم الحلّ الداخلي بعيداً عن التدخّلات الخارجية.
الطريق إلى واشنطن
في نهاية عام 2019، زار رئيس الوزراء السوداني الولايات المتحدة في أوّل زيارة لمسؤول سوداني منذ ثلث قرن، وأعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو نهاية حقبة قطع العلاقات الدبلوماسية مع الخرطوم، وعادت السفارات إلى العمل بعد انقطاع دام 23 عاماً.
في عام 2020 قرّرت واشنطن رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب بعدما كانت تتصدّر القائمة منذ عام 1993. ثمّ بدأت إجراءات لإنهاء ما بقي من العقوبات الأميركية على الخرطوم، وفُتح الباب لإسقاط أغلب الديون السودانية.
أدّت تحوّلات السلطة في تشرين الأول 2021، وإزاحة حكومة عبد الله حمدوك، إلى رجوع واشنطن عن خطواتها باتجاه السودان. وبينما يتحفّظ البنتاغون على وصف ما حدث بالانقلاب العسكري، فإنّ الرئيس بايدن طالب المجلس السيادي بنقل السلطة إلى حكومة مدنية، وقالت إدارته إنّ معادلتنا واضحة “الدعم مقابل الحكم المدني”.
حيرة أم توازن؟
من الصعب وصف العلاقات السودانية مع الصين والولايات المتحدة بالتوازن، الذي يتطلّب علاقة جيّدة مع الطرفين. لكنّ العلاقات مع الصين شهدت صعوداً كبيراً، بينما العلاقات مع واشنطن التي سبق انقطاعها قرابة ربع قرن عادت إلى نقطة الصفر من جديد.
هذا المشهد السياسي وتداخلاته إنّما يدلّ على اتّساع مساحة الحيرة لدى النخبة السياسية في السودان، وإذا ما أُضيفت العلاقات مع روسيا، وما أُثير عن استخراج غير قانوني للذهب السوداني، فإنّ المشهد كلّه يشير إلى ارتباك بشأن التعامل مع القوى العظمى في عالم اليوم.
إقرأ أيضاً: بعد الظواهري.. من هو مستقبل القيادة المصريّة لـ”القاعدة”؟
تُقدِّم واشنطن السياسة على الاقتصاد، وتقدِّم بكين الاقتصاد على السياسة، ولا يمكن بناء مشروع للنهوض من دون السياسة والاقتصاد معاً، وفي الحدّ الأدنى يجب حماية الاقتصاد من السياسة.
فارقٌ كبيرٌ بين الحيرة والتوازن ، وبين التردّد والاعتدال، في عالم يقترب من أجواء حرب عالمية ثالثة. فالإنحياز التامّ مخاطرة، إذ يجب أن لا تكون عدوّاً لقوّة عظمى وصديقاً لأخرى تشبهها، فالمصلحة الوطنية تقتضي الحكمة في كلّ شيء، وأوّل الحكمة ضبط المسافات.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.