السيرلانكيون والسيرلانكيات… يساعدوننا من “عليائهم”

2022-07-11

السيرلانكيون والسيرلانكيات… يساعدوننا من “عليائهم”

يؤخذ على بعض اللبنانيين نظرتهم الفوقية تجاه بعض الجنسيات وتعاليهم غير المبرّر على الآسيوية منها، كالسريلانكية والفيليبينية والبنغالية. ولهذا التعالي جذور واضحة، لأنّ مئات الآلاف من هذه الجنسيات عملت وتعمل في المساعدة المنزلية لدى اللبنانيين، منذ عشرات السنوات. لهذا تُحاك الطُرفات البشعة المتعالية عن هذه الجنسيات، وتطول حتى أفراد البعثات الدبلوماسية الممثِّلة لبلدانها، وتنتشر الفيديوهات والبرامج الفكاهية التلفزيونية الفاقعة بعنصريّتها الكريهة.

أثبت الشعب السريلانكي أنّه يتخطّى كثيراً من الشعوب بتضامنه ووحدته وتأكيده المثبت أنّ أيّ حاكم يخاف الموجات البشرية المتراصّة عندما تنزل إلى الشارع بصوت واحد وهدف محدّد. حقّق هذا الشعب ما لم نستطع تحقيقه، فيما أوجه الشبه بين سريلانكا ولبنان كبيرة.

لا تقتصر أوجه الشبه بين لبنان وسريلانكا على ما ورد من وقائع ميدانية، بل يتشابه وضع البلدين في العمق: بما يعتري اقتصادهما وحالتهما السياسية من تماثل شديد

فعلى غرار تحرّكات 17 تشرين 2019 في لبنان، تحرّك الشعب السريلانكي غاضباً ممّا آلت إليه أوضاع بلاده الاقتصادية والماليّة والسياسية. بيد أنّ هذا الشعب تفوّق على مراوحة وتراجع النضالات اللبنانية التي تجاوزتها الاستحقاقات المتتالية. فمن دون عنف وسفك دماء اقتحمت جماهيره القادمة من المناطق وضواحي العاصمة قصر رئيس الجمهورية، وتلمّست الفراش الذي ينام عليه، وسبحت في بركة سباحته، وتجوّلت في حدائق القصر ووقفت على شرفته.

فرّ الرئيس من القصر. ربّما إلى ثكنة عسكرية أو بارجة في عرض البحر الذي يلفّ الجزيرة من أربع جهات أو إلى مقرّ سفارة أجنبية. فالشبه بين الأمس واليوم وارد بشدّة. قدّم رئيس الحكومة استقالته ليتاح لرئيس البرلمان سدّ الفراغ في الحكم.

لا تقتصر أوجه الشبه بين البلدين على ما ورد من وقائع ميدانية، بل يتشابه وضع البلدين في العمق: بما يعتري اقتصادهما وحالتهما السياسية من تماثل شديد .

“باسيل” كولومبو..

في لبنان عائلات تناوبت على الحكم، منها على رئاسة الجمهورية، ومثيلها على رئاسة الحكومة، واحتكرت أخرى رئاسة البرلمان. وما زالت هذه العائلات الأوتوقراطية تستولد ذاتها وتطمح إلى المزيد من السنوات في مقاليد الحكم. فلا عجب انطلاقاً من وجه الشبه بين البلدين أن تحكم في كولومبو، العاصمة الاقتصادية لسريلانكا، عائلة راجاباكسا، التي منها رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير المالية، ويتولّى أفرادها أهم المواقع القيادية السياسية والأمنيّة والعسكرية في الجزيرة، حتّى أُطلق على الحكم أنّه “حكم عائلي” شبيه بالشركات العائلية. واللافت في الأمر أنّ شقيق رئيس الجمهورية ووزير ماليّته والعضو في البرلمان يدعى “باسيل” راجاباكسا .

يمتدّ الحكم الأوتوقراطي في لبنان ليصل إلى احتكار الوزارات، فتُطوَّب وزارات الطاقة والدفاع والخارجية والعدل والشؤون الاجتماعية، المتعلّقة بالمساعدات الأممية، باسم فريق سياسي واحد دون غيره. وينال الفريق الآخر وزارة الداخلية أو العمل أو التربية أو الأشغال العامة.

في سريلانكا حكم برلماني تحوّل إلى رئاسي، وفي لبنان حكم برلماني يجنح رئيس جمهوريّته إلى تغليب المجلس العسكري على مجلس الوزراء وتهميش دور الأخير وكأنّه الحاكم بأمره على رأس نظام أوتوقراطي مدعوم من ميليشيا.

مضى الشعب السريلانكي موحّداً هذه المرّة لفرض الإصلاح والتغيير، في حين أنّ كتلة الإصلاح والتغيير في لبنان لم تعد تتحمّل حتّى اسمها، بعدما تنكّرت لروحها ولشعاراتها وللمبادئ التي رفعتها لتأطير جمهورها

في البلدين معاً لا نجد النقد النادر لشراء واستيراد الأدوية والطحين والمحروقات والأجهزة الطبيّة والموادّ الغذائية، وقد أغلقت حكومة كولومبو المصارف كما جرى في لبنان. واعتبرت أيام العمل أربعة في الأسبوع مثلما أعلنت حكومة لبنان أن ليس مطلوباً من الموظّف أن يداوم أكثر من مرّتين في الأسبوع. وعلّقت حكومة سريلانكا العمل في محطات المحروقات بما يشبه قرار المصرف المركزي اللبناني عدم فتح الاعتمادات اللازمة لاستيراد المحروقات .

الديون نفسها.. وصندوق النقد

تدين سريلانكا بمبلغ 51 مليار دولار، وتبلغ فجوة ديون لبنان 73 مليار دولار. تفاوض كولومبو صندوق النقد الدولي للحصول على 3 مليارات دولار، وعلى غرارها تسعى بيروت إلى استدانة المبلغ نفسه.

تعجز سريلانكا عن تسديد 7 مليارات دولار تستحقّ هذه السنة إلى الصين بعدما توجّه حكمها الاشتراكي “شرقاً” إلى بكين من دون أن ينجح هذا التوجّه بزيادة النموّ وإنقاذ اقتصاد هذا البلد. إذ إنّ أهداف الصين تختلف عن نوايا وأهداف الحكم في كولومبو. وهناك في لبنان من يرفع سبّابته ويأمر الحكومة بالتوجّه “شرقاً”. وكأنّ الترياق يأتي من بكين أو طهران .

عانت سريلانكا من الانقسام الداخلي ومن مواجهة “نمور التاميل” في حرب أهليّة دامت 24 عاماً، وتعاني من صراع مرير بين السنهال والتاميل. غير أنّ قوى دولية تمدّ هذا الصراع بوقوده، إذ ينعكس الصراع الهندي الصيني على الداخل السريلانكي.

الحال مشابهة في لبنان الذي يعاني بسبب موقعه الجغرافي الذي جلب له ما جلب، إضافة إلى أنّ إلحاق لبنان بمحور الممانعة وجعله جزءاً من المدار الإيراني – السوري حوّلاه إلى حلبة صراع مشابهة. لا بدّ من القول إنّ سيطرة السلاح وجرّه لبنان إلى حروب عبثية يرفضها غالبية اللبنانيين، وحمايته للفساد المستشري، كلّفت البلاد مليارات الدولارات وتدمير البنى التحتية و”سقوطاً” اقتصاديّاً غير مسبوق .ولا حاجة إلى التذكير بأنّ الإصرار على جعل لبنان طوال الـ22 عاماً، التي أعقبت “التحرير”، هانوي ومسرحاً للاقتتال الإقليمي، وعلى ربطه بمحور إيران، سيفاقم من سوء أوضاعه أكثر بعد.

شرّع الحكم الاشتراكي في كولومبو أبواب سريلانكا أمام الصين التي أرادت محاصرة الهند من الجنوب (أي من الجزيرة التي تُعدّ “دمعة الهند”) بعدما حاصرتها غرباً في قواعدها في باكستان، فدفعت سريلانكا ثمن السيطرة الصينية غالياً. أمّا في لبنان فتطير مسيَّرات حزب الله فوق البحر لإلزام الحكم في لبنان بتشريع وجود شركات نفطية تأتمر من طهران وتربط نفط لبنان وغازه بحكم الملالي، وكأنّهم لا يتّعظون من تجارب الآخرين ولا ينتصحون ولا يستفيدون من الدروس.

إقرأ أيضاً: السودان والمصالحة مع المنطق!

مضى الشعب السريلانكي موحّداً هذه المرّة لفرض الإصلاح والتغيير، في حين أنّ كتلة الإصلاح والتغيير في لبنان لم تعد تتحمّل حتّى اسمها، بعدما تنكّرت لروحها ولشعاراتها وللمبادئ التي رفعتها لتأطير جمهورها.

نعم، نحسد شعب سريلانكا بعدما خُذلنا في لبنان.

لقد فعل السيرلانكيون والسيرلانكيات، ما عجزت عنه الطبقة الوسطى والفقيرة في لبنان. كان يجب أن نتعلّم منهم، حين زارونا في منازلنا، وساعدونا، وها هم اليوم، كما لو أنّهم يدلّوننا على الطريق، ويساعدوننا، من عليائهم السيرلانكي.

* كاتب لبناني مقيم في دبي

مواضيع ذات صلة

لبنان بالخيار: حرب مفتوحة أم فصل المسارات؟

هو أشبه بفيلم رعب عاشه اللبنانيون منذ يوم الثلاثاء الفائت. في الوقت الذي بدأ الحزب بتحقيقاته الداخلية للوقوف على أسباب الخرق ومن يقف خلفه، تستعدّ…

ماذا أرادَ نتنياهو من عمليّة “البيجر”؟

دخلَت المواجهة المُستمرّة بين الحزب وإسرائيل منعطفاً هو الأخطر في تاريخ المواجهات بين الجانبَيْن بعد ما عُرِفَ بـ”مجزرة البيجر”. فقد جاءَت العمليّة الأمنيّة التي تخطّى…

ما بعد 17 أيلول: المدنيّون في مرمى الحزب؟

دقائق قليلة من التفجيرات المتزامنة في مناطق الضاحية والجنوب والبقاع على مدى يومين شكّلت منعطفاً أساسياً ليس فقط في مسار حرب إسناد غزة بل في تاريخ الصراع…

ألغام تُزَنّر الحكومة: التّمديد في المجلس أم السراي؟

ثلاثة ألغام تُزنّر الحكومة و”تدفشها” أكثر باتّجاه فتح جبهات مع الناقمين على أدائها وسط ورشتها المفتوحة لإقرار الموازنة: 1- ملفّ تعليم السوريين المقيمين بشكل غير…