كان لمفتي الجمهورية اللبنانية عبد اللطيف دريان موقف مهمّ ولافت من مشروع تقسيم بلدية بيروت بما يفوح منه من نَفَس طائفي. لا تنبع أهميّة موقف المفتي من رفضه لهذه الأفكار التقسيمية، بل بتمسّكه الشديد والحاسم بالعيش المشترك والحفاظ عليه مهما كان الثمن.
والحال أنّ الاعتدال هو السلاح الأمضى في مواجهة التطرّف الذي لا يقوى ولا يسود إلّا عندما يقابله تطرّف مماثل. وبموقفه هذا يمهّد المفتي دريان الطريق لوأد الفكر التقسيمي في مهده بموقف وطني جامع يشمل كلّ الزعماء الروحيين من أجل قطع دابر الفتنة قبل أنْ يتقوّى أكثر ويعمّ كلّ المدن والمناطق اللبنانية.
القويّ الحكيم
مع أنّ القوّاتيّين ومن خلفهم العونيون يحاولون تقديم ذرائع تطويرية وإنمائية لتسويغ المضيّ بهذا المشروع التقسيمي، إلّا أنّ ذلك لا يعدو كونه ذرّاً للرماد في العيون. ما يقوم به المسيحيون “الأقوياء” فعليّاً هو استغلال تراجع الدور الرسمي للسنة في بيروت ولبنان.
ذهبت القوّات بعيداً جدّاً في إثارة الغرائز المسيحية حتّى وصل الحال بمنسّقها في بيروت إلى وصف ما يدفعه المسيحيون من رسوم بلدية بـ”الجزية” التي كانت تُدفع للعثمانيّين
في إطار حديث القوّة من المفيد العودة إلى عام 1998، إلى أوّل انتخابات بلدية بعد الحرب الأهلية الأليمة، حينما رفض الرئيس الشهيد رفيق الحريري الاستقواء على أيّ فريق، على الرغم من كلّ ما كان يتمتّع به من حضور وأوراق قوّة، وأصرّ على تكريس المناصفة وتعدّديّة التمثيل في مجلس بلدية بيروت، من دون الإصغاء إلى كلّ الأصوات السنّيّة وغير السنّيّة التي كانت تطالبه بغير ذلك. وكلّف مستشاره حينذاك نهاد المشنوق بالتنسيق والتعاون مع ألفرد ماضي عن “القوّات”، التي كان يُطلق عليها تسمية “القوات اللبنانية المنحلّة| في الأوساط الإعلامية والسياسية، ومع الوزير الراحل فؤاد بطرس ممثّلاً الروم الأرثوذكس أصحاب الحضور التاريخي في بيروت وأبناء الطائفة المسيحية الكبرى فيها حتى اليوم.
لم يتأثّر وقتذاك المشنوق باتّهامات الخيانة التي كيلت له من كلّ حدب وصوب وخاصة في دمشق، ولم يرضخ الرئيس رفيق الحريري لكلّ الضغوطات التي حاولت ثنيه عن التعاون مع القوّات بالذات، وكرّس المناصفة عُرفاً لا يزال يُعمل به حتّى اليوم، بفعل إصرار الرئيس سعد الحريري على حمايته على الرغم من الصعاب التي كادت أنْ تؤدّي إلى خسارته شخصيّاً لحضوره في بلدية بيروت عام 2016.
الأحقاد التاريخيّة
نسوق هذا المثال لتذكير أصحاب القوّة والبأس لدى المسيحيّين بأنّ القوّة ليست بطرح أفكار تقسيمية بل بمنعها والحفاظ على العيش المشترك حتّى لو أدّى ذلك إلى بعض الأعراض السياسية الجانبية. ونسوقه أيضاً للمقارنة بين ما قام به الرئيس رفيق الحريري في عزّ قوّته وبين ما تقوم به القوّات في عزّ قوّتها اليوم، على الرغم من كلّ ما ادّعته من حرص مزعوم على السُنّة وعلى العيش المشترك للحصول على آلاف الأصوات السنية في عدد من المناطق، ونفخ كتلتها النيابية، مع التذكير بالسُنّة الكونية الراسخة بأنّ القويّ اليوم ضعيف غداً والعكس بالعكس.
لقد ذهبت القوّات بعيداً جدّاً في إثارة الغرائز المسيحية حتّى وصل الحال بمنسّقها في بيروت إلى وصف ما يدفعه المسيحيون من رسوم بلدية بـ”الجزية” التي كانت تُدفع للعثمانيّين مع ما يحمل هذا التشبيه ومصطلح “الجزية” بالذات من كمّ هائل من الكراهية والتحريض وإعادة بعث الأحقاد المذهبية التاريخية من جديد.
كان لمفتي الجمهورية اللبنانية عبد اللطيف دريان موقف مهمّ ولافت من مشروع تقسيم بلدية بيروت بما يفوح منه من نَفَس طائفي
غير أنّ ما يجدر التوقّف عنده هو أمران اثنان:
الأوّل: هو قول مصادر قوّاتية وعونية في وسائل إعلامية بارزة إنّ الهدف من هذا الطرح أبعد من تقسيم بيروت في ظلّ معرفتهما باستحالة تمرير المشروع في البرلمان، وإنّ الغاية هي وضع القضية على طاولة البحث استعداداً للتسوية الشاملة. وهو ما يعني أنّ الفريقين المسيحيّين القويّين يُعدّان العُدّة لفراغ في سدّة الرئاسة الأولى، وغالباً فإنّهما يدفعان إلى حصوله، يقود إلى فوضى في مؤسّسات الدولة، وإلّا فكيف السبيل إلى حصول هذه التسوية الكبرى في ظلّ انشغال العالم بأزماته من الغاز وصولاً إلى الغذاء؟
الثاني: هو حرف الأنظار عن الانقسام العمودي بين المسلمين والمسيحيّين حول قضية تقسيم بيروت عبر رمي كرة النار باتّجاه المسلمين في محاولة لخلق فتنة سنّيّة شيعية.
الفتنة بين السُنّة والشيعة
المثال الأوضح على ذلك ورد في مقال قواتي يشير إلى شعور البيارتة المسيحيين بالغبن والتمييز في غياب قيادة سنّيّة موحّدة وقادرة على الدفاع عن أهلها وصلاحياتهم.
يحاول المقال نقل الخلاف من الساحة المسيحية ورميه في أحضان المسلمين، عبر دعوته السُنّة إلى إشراك جميع المقيمين في النطاق الجغرافي لبلدية المسلمين المفترضة، في الانتخابات البلدية، لأنّهم يدفعون الرسوم والضرائب ويحقّ لهم أن يكون لهم مَن يمثّل توجّهاتهم في مجلسها، غامزاً بذلك من قناة الشيعة، وهو الأعلم بما سيؤدّي إليه هذا النقاش.
يحصر المقال نفسه هذا الحقّ في الجانب المسيحي بمسيحيّي الأطراف فقط من دون الحديث عن المسلمين الموجودين في تلك المناطق وحقّهم في التمثيل إيّاه. وهو ما يعني أنّ البلدية المزعومة ستكون حكراً على المسيحيّين فقط. وكأنّه بذلك يدعو مسلمي نطاقها الجغرافي إلى القيام بـ”ترانسفير” طائفي طوعي في حال أرادوا القيام بأيّ دور اجتماعي أو سياسي.
كنّا نتمنّى أنْ يشمل بدعوته هذه بلديّات أخرى مثل الحدث التي منعت تأجير، وليس تملّك أو تمثيل المسلمين، أو بلدية الغبيري التي يوجد في نطاقها الجغرافي عدد لا بأس به من المسيحيّين المغبونين أيضاً، والذين لا يتأخّرون عن دفع ما عليهم من رسوم بلدية.
المؤسف أكثر القول إنّ الوقت قد حان للاعتراف برغبة أيّ جماعة طائفية أو مذهبية أو مناطقية في إدارة شؤونها الإدارية والمالية بنفسها، وأنْ ينسب ذلك إلى اتفاق الطائف مرّة، وإلى اللامركزية “الحضارية” تارّة أخرى. بيد أنّ حكم المسيحيّين للمسيحيّين لم يكنْ يوماً الوصفة المثالية للخلاص من الأزمات. وهذا ما يشهد عليه التاريخ البعيد والمعاصر، والذي سنكتفي بذكر حدثين منه فقط:
– الأوّل: إصرار الموارنة على تقسيم جبل لبنان إلى قائمقاميّتين عام 1840 ليكون لهم حكم واحدة منهما، لم يحُل دون قيام ثورة شعبية مسيحية قادها طانيوس شاهين ضدّ المقاطعجية الموارنة بالذّات. ولم يحُل أيضاً دون حصول الفتنة الطائفية الدموية عام 1860.
إقرأ أيضاً: حرب غياب الميثاقيّة على السُنّة… حتّى آخر رئيس
– الثاني: لبنان المفيد أو المنطقة المحرّرة ذات الصفاء المسيحي أيّام الحرب الأهلية، والتي كانت شاهدة على الكثير من الأهوال والأحداث الدموية. لا نتحدّث هنا عن حرب الإلغاء فقط، بل ما سبقها أيضاً من انقلابات دموية وصولاً إلى تلك الحرب التي قام فيها الطرفان المسيحيّان نفسهما اللذان يدّعيان الحرص على حقوق المسيحيّين، بالقضاء على قوّة الحضور المسيحي داخل الدولة والنظام، بحروبهما المديدة التي قتلت من قتلت من المسيحيين، ثم أسّست للهجرة المسيحية الكثيفة بعد العام 1990، وأنهكت الديمغرافيا المسيحية في البلد وفي المؤسسات والإدارات العامة، وأخرجت المسيحيين، تقريباً، من السلطة، حتى العام 2005. وها هما يعيدان الكرّة من جديد بشكل أكثر حداثة، ويستخدمان “حقوق المسيحيين” كذريعة لتحقيق الهدف نفسه، ألا وهو الحكم والسلطان، فهي الطريق الوحيدة المتاحة أمامهما لتحقيق ذلك الهدف، وما من سبيل آخر. علماً أنّ هذا الطريق لا بدّ له أنْ يمرّ ببكركي التي هجراها أخيراً فقط لأنّ سيّدها قدّم لائحة مواصفات للرئيس الجديد لم تنَل رضاهما، تقفز فوق “قوّة التمثيل المذهبي” إلى قوّة التمثيل الوطني، ودرجة القبول العربي، وإمكانية التعاون الدولي.