كثيراً ما حاول رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره وفريقهما السياسي التبرّؤ من استهداف السُنّة في حملاتهم، حاصرين الأمر بالرئيس سعد الحريري والحريريّة السياسية. لكنّ انسحاب الأخير من الحلبة السياسية أظهر أنّه لم يكن هو الهدف الأساس إنّما السُنّة، من أرفع المناصب والمقامات في النظام وصولاً إلى أصغرها، وحتّى آخر موظّف سنّيّ.
هي حرب عونية على السُنّة لتقويض حضورهم ودورهم السياسي والوطني وتهميشهم واستتباعهم، والعمل على استخدام بعضهم ضدّ بعض من خلال تقديم المغريات التي لا تعدو كونها سراباً، أو عبر محاولة خلق زعامات سنّيّة “كرتونية” للعب دور “الباصم بأمره”. كلّ ذلك تحت رداء “تصحيح التوازنات”، و”إعادة الاعتبار لمقام رئاسة الجمهورية”، بما يستوجب اغتيال اتّفاق الطائف.
مع أنّ الرئيس عون نفى بشدّة صحّة مضمون وثيقة “ويكيليكس” التي أشارت إلى وصفه السُنّة بلفظ نابٍ، إلّا أنّ ممارساته وعهده بالكامل مطبوع بالتأكيد على مضمون تلك الوثيقة. وفي هذا السياق لا ينفكّ عون وحلفاؤه في محور الممانعة عن استخدام وثائق “ويكيليكس” نفسها في وجه خصومهم، مانحين إيّاها صكّاً بالمصداقية لا يقبل الشكّ.
لم يكفّ باسيل عن إهانة السُنّة تحت سمع وبصر وموافقة رئيس الجمهورية، باستخدامه أسلوب الابتزاز عبر فتح حوارات وبازارات مع العديد من الشخصيّات السنّيّة في قصر الرئاسة
الميثاقيّة الانتقائيّة
من على منبر البرلمان في ساحة النجمة، قال رئيس التيّار الوطني الحر جبران باسيل عقب لقائه رئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي ضمن الاستشارات النيابية غير الملزمة، إنّ “هناك مشكلة حقيقية بميثاقيّة التكليف، وطرحنا هذا الموضوع عليه (ميقاتي)، لكنّنا تخطّينا هذه المشكلة بظلّ الوضع في البلاد”.
في حين أنّه قبل أقلّ من شهر، وفي المكان نفسه، انتخُب الرئيس نبيه برّي رئيساً للبرلمان من دون أصوات نوّاب أحزاب القوّات والتيّار الوطني الحر والكتائب، تماماً مثل ميقاتي، ولم ينبس باسيل وقتذاك ببنت شفة عن الميثاقيّة. فلو كان باسيل حريصاً على الميثاقيّة الحقيقية، فلماذا لم يجرؤ على التطرّق إلى الميثاقيّة الغائبة في انتخاب رئيس مجلس النواب؟
وفي السياق، هل الميثاقيّة تتيح للكتل المسيحية الكبرى أنْ تفرض مرشّحها للمنصب السنّيّ الأرفع من دون إقامة أيّ اعتبار لإرادة الشارع السنّيّ، مثلما حصل عندما اخترع العونيون نموذج حسّان دياب؟ مع الإشارة إلى أنّ باسيل لم يتطرّق مطلقاً إلى غياب الحيثية التمثيلية لحسان دياب كما يفعل اليوم مع ميقاتي.
أمْ أنّ الميثاقيّة تكون بالامتناع عن التسمية مثلما فعل العونيّون وآزرهم القواتيّون لثلاث مرّات متتالية، ثم العودة بعد ذلك للتلويح بسلاح الميثاقيّة؟ وسار على هذا النهج “السيادي” نعمة أفرام في الاستشارات الأخيرة. وكأنّ الطائفة السنيّة لم يعد لديها كفاءات وأنّ الموارنة وحدهم من يرون ذلك. علماً أنّ جورج عدوان ادّعى ذات مرّة أنّ عدم التسمية هو احترام للميثاقيّة!!
إهانة الميثاق والسُنّة
لم يكتفِ باسيل بذلك، بل وجّه إهانة للميثاق والميثاقية عبر طرحه تعديلاً دستورياً يساوي بين إلزام رئيس الجمهورية بمهلة محدّدة لتعيين موعد الاستشارات، مقابل إلزام رئيس الحكومة المكلّف بمهلة للتشكيل تحت طائلة إبطال التكليف برمّته، واضعاً بذلك مقام رئاسة الحكومة تحت مقصلة قلم رئيس الجمهورية الاستنسابي. وبهذا التعديل يصبح رئيس الحكومة المكلّف مسؤولاً أمام رئيس الجمهورية قبل البرلمان الذي هو مصدر التكليف.
من جانب آخر، لم يكفّ باسيل عن إهانة السُنّة تحت سمع وبصر وموافقة رئيس الجمهورية، باستخدامه أسلوب الابتزاز عبر فتح حوارات وبازارات مع العديد من الشخصيّات السنّيّة في قصر الرئاسة، وفرض لائحة شروط ومطالب عليهم مقابل تبنّي ترشيحهم لرئاسة الحكومة وأيضاً للحقائب الوزارية، حتّى وصل الأمر إلى حدّ اختراع شخصيات ليس لديها أيّ حضور سياسي من باب الإمعان في تهميش السُنّة.
تُرى ما هي ردّة فعل عون وباسيل، ومن خلفهما القوّات وحتّى الكتائب، إذا ما قام النواب السُنّة بنفس الفعل، وعمدوا إلى فرض شروط على المرشّحين لرئاسة الجمهورية، أو حاول بعضهم اختراع شخصيات مارونية ليس لها أيّ حيثيّة سياسية لطرح ترشيحها لرئاسة الجمهورية؟ أفلنْ تُسارع كلّ القوى السياسية المذكورة إلى رفع سلاح الميثاقيّة، وإلى اعتبار ذلك افتئاتاً على مقام رئاسة الجمهورية واعتداءً على حقوق المسيحيّين؟
نظام رئاسيّ.. على السُنّة
بدورها لم تُثِرْ رئاسة الجمهورية، “الضنينة” على المعايير الوطنية، ميثاقيّة انتخاب رئيس مجلس النواب أبداً، لكنّها لا تتورّع عن “تشليح” رئيس الحكومة لصلاحيّاته الدستورية بسلاح الميثاقيّة، والإفتاء بشراكة رئيس الجمهورية في اختيار ما ليس مسؤولاً عنه دستورياً.
زد على ذلك حضور المدير العام لرئاسة الجمهورية أنطوان شقير لاجتماع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مع الموفد الأميركي آموس هوكستين، وكأنّ شقير تحوّل من مدير عام لرئاسة الجمهورية إلى موفد رئاسي على طريقة نظم الحكم الرئاسية، أو إلى وزير شؤون رئاسة الجمهورية مع كثرة تمثيله لعون في العديد من المناسبات والاجتماعات المحليّة والدوليّة.
ليس السؤال هنا: لماذا حضر شقير الاجتماع إيّاه؟ ولا السؤال: هل يسمح الرئيس عون بمشاركة الأمين العام لمجلس الوزراء في اجتماعات رئاسة الجمهورية على قاعدة موازاة الصيغ التي غرّد عنها شقير نفسه؟ بلْ السؤال هو: لماذا لمْ يشارك الموفد الرئاسي في اجتماع الرئيس برّي بهوكستين؟ هل الرئيس القويّ قوّته لا تكفي إلّا للسُنّة ومقام رئاسة الحكومة؟
اللجان النيابيّة أيضاً
كانت انتخابات اللجان النيابية قد شهدت إحدى حلقات الاستهداف العونيّ للسُنّة، وذلك من خلال ما كشف عنه “أساس” من قيام كتلة باسيل بالإخلال بالتعهّدات التي قطعتها لتجمّع النواب السُنّة المستقلّين، المصنّف أنّه حريريّ الهويّة، بانتخاب النائب أحمد الخير رئيساً للجنة الدفاع والبلديات، مقابل تصويتهم لمرشّحي التيّار الوطني الحر لعضوية اللجان، وقد فُرض عليهم الاكتفاء بالحصول على رئاسة لجنة الأشغال لسجيع عطية.
وكان ردّ الموفد الرئاسي الآخر والأكثر تميّزاً، نائب رئيس مجلس النوّاب الياس بو صعب، على مراجعة أحد نوّاب التجمّع، أنّ عددهم لا يخوّلهم الحصول على أكثر من رئاسة لجنة واحدة. لكنْ هل يسمح عدد النواب السُنّة من حلفاء حزب الله بالحصول على رئاسة لجنتين؟ (التربية لحسن مراد، والدفاع لجهاد الصمد).
في الشكل تبدو الكفّة متساوية، أمّا في المضمون فإنّ المستقلّين المقرّبين من الحزب هم 5 فقط، إذ ينضوي اثنان منهم في كتلة حزب الله، وواحد في كتلة الرئيس برّي، فيكون الـ5 المقرّبون من الحزب، ومن دون كتلة، قد حصلوا على رئاسة لجنتين، في حين حصل الـ8 المقرّبون من الحريري على رئاسة لجنة واحدة فقط لأرثوذكسي وليس لسُنّيّ.
إقرأ أيضاً: تعذيب العكّاريين في العاقورة: “السُنّة” بلا ظهر رسمي.. أيضاً وأيضاً
ثمّة من اعتبر أنّ ما حصل هو تسديد عونيّ لفاتورة حساب حريريّة، لكنّه فعليّاً لم يكنْ سوى تطبيق عمليّ للاستراتيجية العونية الأثيرة بضرب حضور السُنّة، وذلك من خلال تفضيل دعم الأفراد على حساب المجموعات، الأمر الذي يمنح العونيين القدرة على تفتيت حضور السُنّة وتشتيت شملهم أكثر فأكثر، وإبعاد أيّ قوّة سياسية سنّيّة ناشئة عن دائرة التأثير وصنع القرارات.