لم يعد الكلام عن وجود خلافات وتباينات بين أقطاب “الإطار التنسيقي” الذي يضمّ الأحزاب والفصائل المقرّبة من إيران على الساحة العراقية، مقتصراً على خصومهم، وتحديداً الصدريّين. بل بدأ يتحوّل إلى صراع علنيّ على خلفيّة التعامل مع التركة التي خلّفها لهم مقتدى الصدر بعد قرار استقالة نواب الكتلة الصدرية من البرلمان، ومسارعتهم إلى اغتنام الفرصة وسدّ الفراغ وتقاسم المقاعد باختيار النواب البدلاء، بناءً على آليّات دستورية وقانونية وضعتها المفوضية المستقلّة للانتخابات مع المحكمة الاتحادية العليا.
البيان الذي أصدره هادي العامري، زعيم كتلة “الفتح” ومنظّمة “بدر”، وأعلن فيه عزوفه عن الترشّح أو المنافسة على موقع رئاسة الحكومة المقبلة، وعدم المشاركة في تشكيلتها، كشف في طيّاته عن وجود صراع محتدم بين أقطاب “الإطار” على توزيع المواقع. كما دلّ على أنّ العامري فضّل الانسحاب والابتعاد عن دائرة الصراع، إمّا نتيجة عدم قدرته على مواجهة الآخرين والحصول على دعم واضح منهم في تأييد مسعاه وطموحه القيادي، وإمّا لشعوره العميق بضرورة الابتعاد عن المسؤولية المباشرة بسبب دقّة المرحلة المقبلة والتحدّيات التي تحملها. وذلك لما في المرحلة من غموض نتيجة الترقّب الذي يعيشه جميع الأطراف بانتظار الخطوات التي قد يلجأ إليها زعيم التيار الصدري بعد انسحابه من الحياة البرلمانية.
لم يعد الكلام عن وجود خلافات وتباينات بين أقطاب “الإطار التنسيقي” الذي يضمّ الأحزاب والفصائل المقرّبة من إيران على الساحة العراقية، مقتصراً على خصومهم، وتحديداً الصدريّين
استطاعت الجهود التي بذلها اللاعب الإيراني أن تحافظ على تماسك “الإطار”، في مواجهة ضغوط التيار الصدري لتفكيكه واستمالة بعض قياداته بهدف توسيع قاعدة تحالفه مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني وائتلاف “السيادة” بزعامة ثنائية من رئيس البرلمان محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، بما يسمح له بتمرير الاستحقاقات الدستورية بعيداً عن “الإطار”. لكنّ انتقال الأخير إلى موقع المقرّر بعد انسحاب الصدر، لم يساعد على تسريع استكمال الاستحقاقات المعلَّقة في رئاستَيْ الجمهورية والحكومة، وبات اللاعب الإقليمي أمام تحدّي التعامل مع الصراعات الداخلية لأقطاب “الإطار” وسعي كلّ طرف منهم إلى الإمساك بالقرار السياسي والحكومي على حساب الآخرين.
كما سمح التمسّك الإيراني بوحدة الموقف داخل “الإطار” باستخدام ورقة الثلث المعطّل لإفشال جهود التحالف الثلاثي: “إنقاذ وطن”، من أجل استكمال العملية السياسية، وحوّل هذا التحالف إلى أرقام وحسب في معارضة برلمانية لا تملك القدرة على حماية نفسها. إلا أنّ قوى “الإطار” تبدو متردّدة في اتّخاذ الخطوة الحاسمة بالذهاب إلى ترجمة الانسحاب الصدريّ عمليّاً. هذا على الرغم من اللقاءات اليومية التي يعقدها أقطابه، تارة بمشاركة المشرف على الملفّ العراقي قائد قوة القدس الجنرال إسماعيل قاآني، وتارة أخرى منفردين بهدف التوصّل إلى آليّة لتسهيل ولادة الحكومة الجديدة واختيار رئيس لها من بين هذه القيادات، أو التفاهم على مرشّح توافقي بينها.
العامري.. يمهّد للمالكي
قد يكون من السهل وصف خطوة الاستقالة من البرلمان التي فرضها مقتدى الصدر على نواب التيار الصدري، بأنّها خطوة شجاعة، الهدف منها كسر الجمود الحاصل في العملية السياسية والصراع داخل المكوّن الشيعي. وذلك بعد فشل كلّ المحاولات والمبادرات التي تقدّم بها تحت سقف رؤيته القائمة على تشكيل حكومة أغلبية وطنية. لكن بعد استقالة الصدر كان المتوقّع أن يقوم “الإطار” بخطوة أكثر شجاعة، لم يقدم عليها إمّا لعجزه أو تخوّفه من الذهاب إليها، في ظلّ توجّسه من تبعاتها ونتائجها وردّات الفعل المحتملة. خاصة من جهة الزعيم الصدري وما يمكن أن يتّخذه من خطوات لعرقلة مساعي “الإطار” السلطوية.
ترك انسحاب العامري من السباق نحو رئاسة الحكومة، والتخلّي عن حصّته في التشكيلة الوزارية، المجال واسعاً أمام رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي ليتصدّر المشهد داخل “الإطار”، وأن يتحوّل إلى الشخصية التي تتحكّم بمستقبل العملية السياسية، بأن يكون مرشّحاً أو الجهة التي تسمّي المرشّح لرئاسة الحكومة. إلا أنّ التشكيل كان مؤجّلاً، بانتظار نتائج الحراك الذي دعا إليه مقتدى الصدر يوم 15 تموز في مدينة الصدر في بغداد تحت عنوان “صلاة الجمعة الموحّدة” التي دعا جميع أنصاره ومؤيّديه في كلّ أنحاء العراق ومحافظاته إلى المشاركة فيها.
قد يكون من السهل وصف خطوة الاستقالة من البرلمان التي فرضها مقتدى الصدر على نواب التيار الصدري، بأنّها خطوة شجاعة، الهدف منها كسر الجمود الحاصل في العملية السياسية والصراع داخل المكوّن الشيعي
الصدر في الشارع مجدّداً
استعراض القوّة، أو حشد القاعدة الشعبية في 15 تموز، حيث تجمّع مئات الآلاف من أتباعه، كان قراراً فيه كثير التعقيد بالنسبة إلى الصدر. فهو يتعارض مع ما أعلنه عند الانسحاب من البرلمان والسباق الحكومي من أنّه لن يعرقل التشكيل الذي تركه لـ”الإطار”، وأنّ أيّ تحرّك لاحق سيكون نتيجة تقويمه لأداء الحكومة والفريق الذي شكّلها. وهو قرار أثار موجة من التململ داخل جماعته، خاصة الصقور الذين خسروا فرصة الإمساك بمفاصل القرار بعد طول انتظار، الأمر الذي جعل الدعوة إلى هذه الصلاة التي انطلقت قبل أكثر من 15 يوماً، محاولة من الصدر لإرباك طموحات “الإطاريّين” في المضيّ بالتشكيل بعيداً عنه. بالإضافة إلى إمكانية اعتبارها إرضاءً لقاعدته السياسية والشعبية التي ستجد نفسها خارج الفعل السياسي إذا ما استطاع “الإطار” إنجاز الاستحقاقات.
قد لا يقف خيار استعراض الشارع الشعبي، وما يحمله من رسائل واضحة، عند حدود المكوّن الشيعي وقوى “الإطار” المقرّبة من إيران، بل ربّما يتّسع ليشمل قوى المكوّنين الكردي والسنّيّ والمتحالفين معه فيهما أيضاً. وذلك ليبلغ الجميع بأنّه قادر على قلب الطاولة وتحريك هذا الشارع في حال شعر بنوع من “الخيانة” تجعله يدفع الثمن وحده دون غيره نتيجة تمسّكه بموقفه المتشدّد الرافض لخيار الحكومة التوافقية. خاصة أنّ مؤشّرات تناغم بدأت تظهر على خط العلاقة بين قوى “الإطار” وأحزاب المكوّن الكردي في ما يتعلّق برئاسة الجمهورية. وهو تناغم يمكن وصفه بتبادل الأدوار، إذ أكّد “الإطار” تمسّكه بتوافق كرديّ على مرشّح رئاسة الجمهورية، في ردّ جميل على موقف سابق لهذا المكوّن حين دعا إلى توافق داخل البيت الشيعي على مرشّح رئاسة الحكومة.
تسوية الخلاف الكردي
في ظلّ تمسّك كلّ من الحزبين الكرديّين بمرشّحه، ربير أحمد بارزاني عن الحزب الديمقراطي، وبرهم صالح عن الاتحاد الوطني، يبدو أنّ الأمور تتّجه إلى تكرار تجربة التنافس بين مرشّحَيْن، وترك الحرّيّة للنواب في انتخاب من يريدون منهما، كما حصل مع برهم صالح وفؤاد حسين عام 2018. وهو خيار قد يُعتمد في حال لم تنجح جهود التسوية في تسمية مرشّح توافقي بينهما.
في المقابل، تُمارَس ضغوط داخل “الإطار” لقطع الطريق على تمسّك ائتلاف “دولة القانون” بترشيح المالكي، واعتماد مرشّح بديل قد يكون واحداً من اسمين يطرحهما المالكي، أوّلهما علي الشكري الذي قد يشكّل نقطة تفاهم مع الصدر، وثانيهما محمد شياع السوداني، واستبعاد شبه حاسم لترشيح مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي، المقرّب أو المحسوب سياسياً على العامري.
إقرأ أيضاً: الصدريون في الشارع: نهاية المالكي و “الإطار”؟
فرضت صلاة الصدر يوم الجمعة تأجيلاً لتشكيل الحكومة، ولذلك سيستمرّ انتظار “الإطار” إلى حين معرفة الخطوة التالية للتيار الصدري وكيفيّة توظيفه واستثماره لهذين الحشد والاستعراض. وحتى ذلك الوقت سيدعو “الإطار” أن لا يستغلّ الصدر هذا الحدث للإطاحة بالعملية السياسية أو التأسيس لمثل هذا المسار، وأن يكتفي بتأكيد دوره والحفاظ على ما يملكه من نفوذ وأوراق قوّة تبقيه شريكاً لا يمكن تجاوزه.