يكره اللبنانيّون الحقيقة بدل التصالح معها…

مدة القراءة 5 د

ترك لبنان نفسه على قارعة الشارع في عالم يشتري فيه رجل الأعمال إيلون ماسك موقع “تويتر” بمبلغ 44 مليار دولار، وهو مبلغ يقترب من حجم خسائر الخزينة اللبنانية بسبب ملفّ الكهرباء. هذا الملفّ الذي يُعتبر صهر رئيس الجمهوريّة جبران باسيل المسؤول الأوّل عنه في ضوء إشرافه المستمرّ عليه إلى يومنا. هذا الإشراف الذي يمارسه ما يُسمّى “التيّار العوني” على ملفّ الكهرباء بدأ في العام 2008 مباشرة، عبر جبران باسيل ممثّلاً بشخصه الكريم، أو غير مباشرة عبر أزلامه.

بات لبنان يعيش في عالم خاصّ به لا علاقة له بما يدور في العالم، بما في ذلك خطورة ما سيترتّب على العلاقات بين الدول في ضوء الحرب الأوكرانيّة. ليس غرق السفينة الصغيرة قبالة طرابلس، وما رافق ذلك من سقوط لضحايا، سوى تأكيد لتحوّل لبنان إلى أرض طاردة لأهلها. كان في استطاعة لبنان أن يكون بلداً مزدهراً على تماس مع كلّ ما هو حضاري في هذا العالم بدل أن يغرق أكثر فأكثر في أزماته في ظلّ سلطة احتلال لا مصلحة لديها في أيّ تحسّن للوضع اللبناني على أيّ صعيد كان.

لن تفيد الانتخابات النيابيّة المقرّرة منتصف أيّار الجاري لبنان في شيء. سينتصر “حزب الله” في هذه الانتخابات. سيقول للعالم إنّ لديه أكثريّة في مجلس النواب وإنّ على العالم الاعتراف به وبسلاحه، على غرار ما فعل الرئيس إيمانويل ماكرون الذي تحلّى بمقدار كبير من السذاجة، عندما زار بيروت بعد كارثة تفجير المرفأ في الرابع من آب 2020. هذه الكارثة التي سعى رئيس الجمهورية ميشال عون، منذ اليوم الأوّل، إلى طمس معالمها بإغلاقه الطريق في وجه أيّ تحقيق دوليّ فيها.

ليست مأساة غرق السفينة الصغيرة قبالة طرابلس حدثا عاديّا. تختزل هذه المأساة وضع لبنان وما آل إليه بلد يرفض أبناء شعبه النظر في المرأة ومواجهة الحقيقة بدل الرهان على انتخابات مزوّرة

طرابلس تختصر لبنان

ليست مأساة غرق السفينة الصغيرة قبالة طرابلس حدثاً عاديّاً. تختزل هذه المأساة وضع لبنان وما آل إليه بلد يرفض أبناء شعبه النظر في المرآة ومواجهة الحقيقة بدل الرهان على انتخابات مزوّرة أصلاً نظراً إلى أنّها تستند إلى قانون انتخابي وُضِع على قياس “حزب الله”.

لعلّ الحقيقة الأولى التي يفترض في اللبنانيين مواجهتها أنّ بلدهم صار محتلّاً، وأنّ “حزب الله”، الذي يتحكّم بمفاصل السلطة، ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني. الحزب ليس معنيّاً بمصلحة لبنان واللبنانيين ومستقبل أبنائهم بمقدار ما هو معنيّ بأن يكون لبنان ورقة إيرانيّة لا أكثر، ورقة تستخدمها “الجمهوريّة الإسلاميّة” من أجل التوصّل إلى صفقة ما مع الإدارة الأميركية.

عندما يجرؤ اللبنانيون على مواجهة هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق، لا يعود ما يدعو إلى انتخابات معروفة نتائجها سلفاً. عندما يجرؤون على رفض قانون انتخابي وُضع في العام 2018 كي ينتصر المسيحي على المسيحي الآخر والدرزي على الدرزي الآخر والسنّيّ على السنّيّ الآخر، معنى ذلك أنّهم باتوا يمتلكون ما يكفي من الشجاعة للنظر إلى ما بعد الانتخابات والاستفادة من تجربة المجلس النيابي الذي انتُخب قبل أربع سنوات. تمكّنت “القوات اللبنانيّة”، التي لا يوجد شك في صدق التوجّهات السيادية لرئيسها سمير جعجع وصوابيّة بعض خياراته، من إيصال نحو 15 نائباً إلى قبّة البرلمان. ما الذي فعلته بهذا الانتصار الكبير وما هو التغيير الذي أحدثته على أرض الواقع؟

في ظلّ العجز عن التعاطي مع الحقيقة والإصرار على العيش في عالم آخر، عالم التبعيّة لإيران، وفي بلد لا يقدّم فيه رئيس الجمهوريّة استقالته ويعتذر من اللبنانيين، خصوصاً بعد ضياع أموال الناس في المصارف، ليس ما يوحي بوجود أيّ أمل. إنّه بلد اسمه لبنان يمتلك فيه صهر رئيس الجمهوريّة، الذي عليه عقوبات أميركيّة، ما يكفي من الوقاحة ما يسمح له بالترشّح في الانتخابات معتمداً على دعم “حزب الله” له.

 

الآتي أعظم بعد الانتخابات

ليس مستبعداً أن تكون مرحلة ما بعد الانتخابات أسوأ من تلك التي سبقتها. لماذا يسهل التكهّن بذلك؟ السبب واضح. يعود السبب إلى أنّ “حزب الله” ليس مستعدّاً للسماح بأيّ تغيير يطرأ على الأمر الواقع القائم. يراهن الحزب على هذا الأمر الواقع الذي في أساسه معادلة السلاح يحمي الفساد، وهي المعادلة التي قامت عليها وثيقة مار مخايل بين “حزب الله” و”التيّار العوني” التي وُقّعت في السادس من شباط 2006، وهي المعادلة التي أوصلت ميشال عون إلى قصر بعبدا ومهّدت للقانون الانتخابي الحالي.

لم يمتلك اللبنانيون يوماً ما يكفي من الشجاعة لسؤال أنفسهم أسئلة بديهيّة من نوع: لماذا لم تحتلّ إسرائيل في حرب العام 1967 أيّ أرض لبنانية؟ كيف كان ممكناً الاعتقاد أنّ المقاومة الفلسطينيّة ستحرّر فلسطين انطلاقاً من جنوب لبنان؟ كيف يمكن لقائد الجيش اللبناني إميل بستاني في العام 1969 توقيع اتفاق القاهرة مع ياسر عرفات؟ كيف يمكن انتخاب شخص مثل سليمان فرنجيّة الجدّ، المعروف بوطنيّته والمشكوك في ثقافته السياسيّة، رئيساً للجمهوريّة في العام 1970 في وقت تمرّ فيه المنطقة كلّها في تحوّلات ذات طابع مصيري؟

إقرأ أيضاً: طرابلس أوّلاً وطرابلس آخِراً!

من يستعرض شريط الأحداث التي مرّ فيها لبنان، مع توقّف عند محطة 1975، لن يمتلك ما يقوله سوى التساؤل: لماذا يكره اللبنانيون الحقيقة بدل التصالح معها؟ لماذا استمرار الهرب من الحقيقة والواقع ومن أنّ الانتخابات لن تغيّر شيئاً في غياب حدث إقليمي ضخم يعيد خلط الأوراق في المنطقة كلّها؟

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…