لبنان: العروبة المدخل الوحيد إلى الاستقرار..

مدة القراءة 5 د

شكّلت عودة السفير السعودي وليد البخاري والسفراء الخليجيين الآخرين متنفّساً للبنان واللبنانيين. صحيح أنّ العودة تأتي في توقيت مفصليّ وعلى مفترق تحوّلات. وصحيح أنّ مناشدات متعدّدة لبنانية وفرنسية وعربية وُجِّهت إلى السعودية لاتّخاذ قرار بالعودة، إلا أنّها عودة لا ترتبط بتفاصيل سياسية يوميّة ولا بحجم مساعدات إنسانية فقط، إنّما بأبعاد ذات توجّهات عميقة جميعها يؤسّس لمرحلة ما بعد الاستحقاقات الدستورية بهدف الحفاظ على لبنان بلداً وكياناً.

المملكة السعودية في سياستها اللبنانية، وعلى نحو استثنائي، هي المدافع الأوّل عن نظام لبنان الليبرالي الديمقراطي على عكس ما كان يُسمّى “الأنظمة العربية”. وهذا كان جزءاً من المواقف السعودية ضدّ المدّ الشيوعي والمدّ الناصري، وبالتأكيد ضدّ التمدّد البعثي. تعود حالياً القواعد السياسية الإقليمية والدولية إلى التمسّك بضرورة الحفاظ على هذا النظام اللبناني بكيانه ووحدته انطلاقاً من التقاء فرنسي سعودي فاتيكاني غربي على الحفاظ على وجوده بعيداً عن التمدّد الإيراني. وهذا مسار طويل الأمد، تعمل السعودية على تحقيقه وفق سياسة القوّة الناعمة، وبعد الإثبات للّبنانيين بأنّهم يخطئون بحقّ أنفسهم في ذهابهم إلى سياسة المحاور والانقسامات.

المملكة السعودية هي المدافع الأوّل عن نظام لبنان الليبرالي الديمقراطي على عكس ما كان يُسمّى “الأنظمة العربية”

فدول المشرق، وتحديداً لبنان، احتاجت في أواخر أيام السلطنة العثمانية إلى سند عربي. ظهر ذلك في ثورة الشريف حسين بوصفها ثورة للتحرّر العربي من العثمانيين. فمسلمو لبنان والمشرق لديهم روابط لا تنفكّ عن الأراضي المقدّسة في المملكة العربية السعودية. يُضاف إلى ذلك أنّ النهضة الثقافية والأدبية والفكرية في المشرق، ولبنان تحديداً، قامت على استعادة منابع اللغة العربية والتاريخ والتراث العربي، وتجسّد المثال الساطع على هذا الأمر في أمين الريحاني وعلاقته بالمملكة العربية السعودية الناشئة، واستمرّت العلاقات في النموّ في حقبة الربع الأول من القرن العشرين، عندما بدأت العلاقات التجارية والاقتصادية مع دول الخليج بالتوسّع والتوثّق والتطوّر.

أموال النفط وتوسيع دور بيروت

في نهاية الأربعينيّات ومطلع الخمسينيّات بدأت الثروة النفطية بالظهور، وبدأت آثارها وفوائدها تطول مصر والمشرق العربي، وبالتحديد لبنان وسوريا. أمّا بعد العام 1958 فقد صارت بيروت عاصمة مصرفيّة للثروة النفطية العربية، فيما ساهم السعوديون والكويتيون وغيرهم من الخليجيين على نحو واسع جدّاً في نقل الاقتصاد اللبناني من اقتصاد التقشّف والقلّة إلى الازدهار الكبير. وساهم الخليجيون في نهضة عمرانية جعلت من بيروت أوسع بكثير ممّا كانت عليه عمرانيّاً قبل هذه العلاقة الوثيقة. كذلك الأمر بالنسبة إلى ازدهار كلّ مناطق الاصطياف اللبناني.

أدّى المال المصرفي والحركة العمرانية إلى ما يُسمّى “العصر الذهبي” في لبنان. سياسيّاً، اعتمد الخليج منذ مطلع الستّينيّات على بيروت في أن تكون منصّة إعلامية أساسية، خصوصاً بعد نشوب النزاع الناصري السعودي. وهذا ساهم في ولادة أسطورة الإعلام اللبناني، بوصفه إعلاماً للعرب. ومنذ أواخر الأربعينيّات أيضاً بدأت دول الخليج تتحوّل إلى سوق عمل للّبنانيين على نطاق واسع بسبب حاجتها إلى بناء دولها الحديثة ومرافئها وقطاعاتها ومرافقها العامّة.

خلال الحروب الأهلية في لبنان، ظلّ السعوديون خارج دعم الحركات المسلّحة، التي حصلت على أموال وأسلحة من مختلف الدول العربية. وراهنوا على رجل الأعمال رفيق الحريري

خلال الحروب الأهلية في لبنان، ظلّ السعوديون خارج دعم الحركات المسلّحة، التي حصلت على أموال وأسلحة من مختلف الدول العربية. وراهنوا على رجل الأعمال رفيق الحريري، الذي بدأ منذ الثمانينات في محاولة “تنظيف” وسط بيروت تمهيداً لإعادة إعماره. وكان اتفاق الطائف في جبال سعودية، جمعت اللبنانيين ومهّدت لسلمهم الأهلي الطويل، من 1990 إلى 2005.

كان التحوّل الكبير في العلاقات بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. إذ كان الاغتيال اعتداءً على الهويّة العربية التي تتلخّص في رفيق الحريري ودوره ومشروعه المدني والإعماري والإنقاذي، وربط لبنان العميق بالخليج والعرب.

بعدها عمل حزب الله على التأسيس لخصام لبناني خليجي، واتّخذت هذه الخصومة الطابع العلني بعد حرب تموز عام 2006. ومنذ تلك الفترة بدأ لبنان يخسر مجاله الحيوي والسند التاريخي، بالإضافة إلى مراكمة الخسائر مصرفيّاً، زراعياً، صناعياً، تعليمياً وسياحياً، وخسارة موارد منظورة وغير منظورة. والأهمّ أنّ لبنان بدأ يفتقر إلى ما يُسمّى “القوّة الناعمة” التي كان يتمتّع بها. فلبنان بدون قوّته الناعمة يفقد الاسم والمعنى. والقوّة الناعمة يمكن لها أن تتجلّى في مقولة “قوّة لبنان في ضعفه”. المقصود في الضعف هنا ليس افتقاد القوّة، إنّما افتقاد التجبّر والادّعاء، وعدم الذهاب إلى التعالي بفعل ادّعاء فائض القوة التي لا تؤدّي إلا إلى النتائج التي يعايشها اللبنانيون اليوم. وعلى ما يبدو أنّها ستستمرّ في حال لم يسعوا إلى إنقاذ أنفسهم بمساعدة العرب والخليجيين، فبدون عودة لبنان إلى الحضن الخليجي، سيبقى بلداً يتيماً على مائدة اللئام.

إقرأ أيضاً: حكومة ما بعد الانتخابات: كلمة السرّ سعودية؟

اليوم لا طريق أمام لبنان، الذي فقد كلّ شيء بغياب العرب. لا طريق سوى العودة إلى النقطة التي بدأ فيها “حرف المسار” التاريخي، في 2005. أي التأسيس لمشروع يربط لبنان بالعرب، من الألف إلى الياء، ويربط مستقبل لبنان بالعلاقات الطبيعية مع أوروبا والغرب. لأنّ “التوجّه شرقاً”، قتلاً وحروباً وتفتيتاً، أنهى لبنان الذي نعرفه. وربما ينهي لبنان بشكل كامل، كما يتخوّف الفاتيكان، في السرّ والعلن.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…