بوتين: الانتقام من هزيمة القرم

مدة القراءة 5 د

في الولايات المتحدة وأوروبا يؤرّخون نهاية الحرب الباردة بسقوط جدار برلين في العام 1989. لكن في الاتّحاد الروسيّ يؤرّخون نهاية الحرب بحلّ حلف وارسو في العام 1991.

جرى حلّ الحلف على قاعدة تعهّدات أميركية – أوروبية لروسيا بعدم توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقاً باتّجاه روسيا.

أكّد الرئيس الأميركي في ذلك الوقت رونالد ريغان الالتزام بهذا التعهّد للرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف.

في الولايات المتحدة وأوروبا يؤرّخون نهاية الحرب الباردة بسقوط جدار برلين في العام 1989. لكن في الاتّحاد الروسيّ يؤرّخون نهاية الحرب بحلّ حلف وارسو في العام 1991

الذي جرى بعد ذلك كان مختلفاً:

– في عام 1999 انضمّت إلى الحلف الأطلسي ثلاث دول كانت أعضاء في حلف وارسو، وهي: هنغاريا وبولندة وتشيكيا.

– في عام 2004 انضمّت إلى الحلف دول البلطيق مع رومانيا.

–  في عام 2008 أُنجز ضمّ كلّ من ألبانيا وكرواتيا.

–  في عام 2009 أعلن الحلف استعداده لضمّ أوكرانيا وجورجيا.

–  في عام 2017 انضمّت دولة الجبل الأسود (مونتي نيغرو).

–  في عام 2020 كانت ماسيدونيا آخر مَن انضمّ إلى الحلف على الرغم من التحفّظات الأمنية – السياسية الروسية.

وجدت روسيا (فلاديمير بوتين) نفسها أمام أمر واقع جديد، حاولت اختراقه باحتلال (أو استرجاع) شبه جزيرة القرم من أوكرانيا. لكنّ تلك العملية لم تردع أوكرانيا عن المضيّ قدماً في طلب الانضمام إلى الحلف. فكانت العملية العسكرية التي وصلت بالقوات الروسية إلى أبواب العاصمة كييف.

كانت روسيا القيصرية قد اضطرّت في عام 1857 إلى التوقيع على وثيقة هزيمتها في حرب القرم التي خرجت منها بريطانيا ذلك العام منتصرة.

وُضِعت الوثيقة في مؤتمر دولي عُقد في باريس. لم تخرج روسيا من الحرب منهزمة فقط، بل خرجت ضعيفة ومنهكة. حتّى إنّ المجاعة دقّت أبوابها.

وجدت روسيا (فلاديمير بوتين) نفسها أمام أمر واقع جديد، حاولت اختراقه باحتلال (أو استرجاع) شبه جزيرة القرم من أوكرانيا

بيع آلاسكا.. وبريطانيا

في ذلك الوقت كانت بريطانيا لا تزال تحتلّ كندا، ولذلك خافت روسيا القيصرية من أن تستغلّ بريطانيا ضعفها العسكري بعد هزيمتها في القرم وأن تبادر إلى احتلال الشمال الروسي انطلاقاً من كندا. ولتجنّب مثل هذا الأمر الكارثي بادرت روسيا إلى عرض بيع آلاسكا إلى الولايات المتحدة التي كانت قد استقلّت حديثاً عن بريطانيا بعد حرب تحرير وطنية.

يوم الجمعة 29 آذار من العام 1867، عرض السفير السوفياتي في واشنطن إدوارد دي ستويكل على وزير الخارجية الأميركي هنري سيوارد رغبة القيصر ألكسندر الثاني في بيع آلاسكا. السفير الروسي قدّم العرض بعد حفل عشاء. وافق الوزير الأميركي على الفور. رحّب السفير بالموافقة وطلب إعداد الأوراق اللازمة. في صباح اليوم التالي ردّ الوزير الأميركي: “لماذا الانتظار إلى الغد؟”.

عند منتصف الليل عُقد اجتماع عمل في مقرّ وزارة الخارجية لإعداد اتفاقية البيع والشراء، وفي الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي السبت 30 آذار، وقّع الوزير الأميركي والسفير الروسي بالأحرف الأولى على الاتفاقية، ولم يكن يعرف ذلك في واشنطن سوى الرئيس الأميركي أندرو جونسون وأعضاء حكومته. أمّا القيصر الروسي وحكومته فلم يصلهما نبأ التوقيع إلا بعد أيام عدّة.

حدّدت الاتفاقية ثمن آلاسكا (586,400 ميل مربع، أي خمس مساحة الولايات المتحدة) بقيمة 7.2 ملايين دولار (حوالي 11 مليون روبل)، أي بمعدّل 2 سنت للهكتار.

اتفاقية البيع التي تأخّر مجلس النواب الأميركي في إقرارها مدّة سنة تقريباً، أقرّها مجلس الشيوخ في التاسع من نيسان من العام 1867، أي بعد عشرة أيام من التوقيع الأوّليّ عليها.

في 18 تشرين الأول 1867 احتفل جنود روس وأميركيون في بلدة سيتكا في آلاسكا بإنزال العلم الروسي ورفع العلم الأميركي. وفي قلب البلدة التي يتقاطع الشارعان الرئيسيان فيها، سُمّي أحد الشارعين باسم روسيا، والثاني باسم أميركا. أصبحت البلدة اليوم مدينة كبيرة. ولا يزال الشارعان يحملان اسميهما الرمزيّين.

ما إن تسلّمت الولايات المتحدة منطقة آلاسكا، حتى وضعتها تحت إشراف وزارة الحرب، وأقامت فيها مركزاً جمركياً واحداً تابعاً لوزارة المال.

استعادة آلاسكا؟

دفع الكرملين ثمن ضعفه بالتخلّي عن آلاسكا لأميركا. وانطلق الضعف من الهزيمة في القرم.

يحاول اليوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تصحيح التاريخ، ليس باستعادة آلاسكا التي أصبحت إحدى الولايات الأميركية، لكن باستعادة شبه جزيرة القرم وضمان التواصل البرّيّ الروسيّ معها. لذلك كانت العمليّة العسكرية في شرق وجنوب شرق أوكرانيا، وهي العمليّة التي دفعت ثمنها المرتفع جدّاً مدينة ماريوبول الواقعة في منتصف الطريق.

إقرأ أيضاً: أوكرانيا: بوتين يدافع.. أو يهاجم؟

في عام 1867 كانت العلاقات الأميركية – البريطانية تتّسم بالخصومة والعداء. ولذلك عملت روسيا على استثمارها لتجنّب المزيد من الضربات على يد القوات البريطانية التي كانت موجودة في شمال كندا. أمّا اليوم فإنّ العلاقات بين واشنطن ولندن هي علاقات تكامليّة داخل الحلف الأطلسي وخارجه. والرئيس بوتين اليوم خلافاً للقيصر في ذلك الوقت، يمارس دبلوماسية تقوم على قاعدة أنّ أفضل وسائل الدفاع عن النفس هي الهجوم. وهو ما قام به سيّد الكرملين. ولكن في عام 1867 لم يكن هناك نظام دولي، ولا شرعة حقوق الإنسان. ولم تكن هناك قواعد متّفق عليها لضبط العلاقات بين الدول في السلم والحرب.

في عام 2022 تغيّر كلّ شيء، وهذه مشكلة الكرملين وسيّده الجديد.

مواضيع ذات صلة

ألغام سياسيّة أمام الجيش في الجنوب!

بعدما أصبح وقف إطلاق النار مسألة ساعات أو أيام، لا بدّ من التوقّف عند العنوان الأوّل الذي سيحضر بقوّة على أجندة “اليوم التالي” في لبنان:…

أميركا مطمئنّة.. ونتنياهو “يسرق الوقت”

عاد الموفد الأميركي آموس هوكستين من زيارته إلى المنطقة، ووصل إلى العاصمة الاميركية أمس. وقبل أن يصل إلى واشنطن كان قد طمأن عين التينة إلى…

مبعوث ترامب إلى الشّرق الأوسط: معجب “بروحانية” نتنياهو..

تشبه الشّخصيّات التي رشّحها الرّئيس الأميركيّ المُنتخب دونالد ترامب شخصيّته الجدليّة. فهو كما فاجأ المراقبين يومَ فازَ في انتخابات 2016، وبفوزه الكبير في انتخابات 2022،…

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…