انتهت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية بحصول ماكرون على نسبة 28.1 بالمئة رغم تدني الثقة بالأحزاب والحملات المناهضة له، وتجمع المعارضات الفرنسية ضده وما يسمى بالتصويت العقابي.
ورغم الازدياد في اعداد المترددين والعازفين عن التصويت، وضمنت مارين لوبان المركز الثاني الذي يؤهلها للدورة الثانية من الانتخابات بنسبة 23.3 بالمئة والتي استفادت كثيرا من المرشح المتطرف اريك زمور والذي اظهر يمين لوبان اعتدالا وحولها الى ملاك.
تغيّرت فرنسا وتبدّلت أولويّاتها. تباينت في سياستها الخارجية والداخلية وظهر الاختلاف العمودي بين مصالحها الوطنية والقومية. ترافقت هذه المراحل مع تقلّب واضح بالمزاج الفرنسي استجابةً لكلّ هذه المتغيّرات، إيماناً بالتفرّد الفرنسي وموروثاته التاريخية واقتناعاً بالمجتمع التعدّدي. تلوّنت نمطيّة الحملات الانتخابية الفرنسية وخلقت واقعاً مختلفاً للسباق الرئاسي إلى الإليزيه. فالاكتفاء الذاتي والاعتماد على النفس لتعزيز فرنسا وأوروبا في وجه الأزمات والتهديدات باتا هدفاً رئيسياً.
انتهت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية بحصول ماكرون على نسبة 28.1 بالمئة رغم تدني الثقة بالأحزاب والحملات المناهضة له، وتجمع المعارضات الفرنسية ضده وما يسمى بالتصويت العقابي
ليس هناك من شكّ في أنّ الانتخابات الرئاسية لعام 2022 تحركت بواسطة ما يسمّى “الصدام الأوروبي”. سنشهد معارضة لمشروعين هما الليبرالي والقومي الجديد، مع ظهور الارتباط القويّ والمتزايد بين الانتخابات الوطنية والسياسة المحلية من ناحية، والقضايا الأوروبية والدولية من ناحية أخرى، بعدما تمكّن الرئيس الحالي المنتهية ولايته إلى حدّ ما من إقناع الكثيرين بأنّه الملاذ الآمن والخيار الصحيح لمكافحة الموجات اليمينية والشعبوية واليسارية التي تهدّد فرنسا بجوهرها ونجح بخطوته الأولى.
هل مشروع الدفاع الأوروبي المشترك والجيل القادم للاتحاد الأوروبي عاملان أساسيّان في الحملة الانتخابية؟
يعطي النظام السياسي الرئاسي أهميّة كبيرة لهذه الانتخابات ويعد النظام السياسي الفرنسي من النظم العريقة على مستوى العالم ويتميز عن مختلف الأنظمة السياسية بخاصية تعدد الأحزاب لاتجاه سياسي واحد . فهنالك تقلّبات و”أزمة ديمقراطية” على المستوى الوطني واقعة تحت تأثير النماذج الخمسة لمواقف الفاعلين السياسيين الفرنسيين اتجاه الاتحاد الأوروبي: السيادة اليسارية والتكامل الاجتماعي والاقتصادي والتكامل الليبرالي، ونماذج السيادة اليمينية والقومية الجديدة، وإذا تمّ البناء من خلال هذه التفضيلات الأيديولوجية، فالانتخابات الرئاسية الحالية لها سيناريوهان فقط :
– إعادة انتخاب إيمانويل ماكرون لولاية ثانية. وهو الأرجح ويجسّد الليبرالية.
– انتخاب ماري لوبان، ولو أنّه احتمال ضعيف. وهي تدافع عن النموذج القومي الجديد.
كلّ هذا مع صعود منطق جديد للديمقراطية في أوروبا يسمّى “الشعبوية التقنية”. يفضّل ماكرون ارتباط فرنسا بالاتحاد الأوروبي والممارسة التوافقية للسلطة، أي “نموذج الدولة العضو”.
بينما تتبنّى لوبان خياراً باطنيّاً، وهو “الشعب ضدّ أوروبا” من خلال تعزيز تسييس الطريقة التي تُدار بها السياسة الأوروبية لفرنسا، أي بنموذج الدولة القومية، وتتمثّل استراتيجيّتها في طمأنة الناخبين اليمينيّين (الشعبيّين) وكسبهم، وخصوصاً في الأرياف، ولا سيّما المتقاعدين منهم، مع اقتراح برنامج اقتصادي أكثر طمأنة يشمل التخلّي عن المواقف الأكثر راديكالية في ما يتعلّق بأوروبا.
يسار ويمين اجتماعي
إنّه تنافس ممنهج بين اليسار واليمين من خلال تأطيرهم للأجندة السياسية وطريقة تشخيصهم للعلاقات مع الليبرالية. فاليسار في فرنسا ليبرالي سياسياً وثقافياً، لكنّه يعارض إلى حدّ كبير الليبرالية الاقتصادية. واليمين ليبرالي اقتصادياً، لكن ليس ثقافياً، ويعطي الأولويّة للأمن والقيم التقليدية على الحرّيّات الفردية. ويدافع اليساريون الفرنسيون عن تدخّل قويّ في السوق، في حين أنّهم أكثر ليبرالية في رؤيتهم للمجتمع في ما يتعلّق بحقوق الأقلّيّات والشباب. ويؤيّد اليمينيون وجود تنظيم أضعف للسوق من قبل دولة ذات امتيازات منخفضة، ومنطق اقتصادي ليبرالي (جديد) في دعم القدرة التنافسية للأعمال التجارية وقيمة الحرّية ومسألة الهويّة الوطنية المرتبطة بالأمن.
أمّا البرامج اليسارية فهي موجّهة نحو مناخ التغيير والمثل العليا للعدالة الاجتماعية والمساواة لجميع المواطنين، فضلاً عن التحوّلات المؤسّسية نحو ديمقراطية أكثر تشاركية، بحيث تكون من القاعدة إلى القمّة. هذا النموذج من اليسار واليمين مفيد، لكنّه غير كافٍ لالتقاط تفضيلات الفرنسيين المرتبطين بالسياسة الأوروبية، التي غالباً ما يتمّ تلخيصها في النقاش العامّ بالتنافس بين المعسكرين “السيادي” الذي يدافع عن الأمّة الفرنسية، و”العولميّ” الذي يقدّر الاتّحاد الأوروبي.
بإعادة انتخاب ماكرون سيكون هنالك توازن غير مؤكّد لسياسة فرنسا المرنة اتّجاه الاتحاد الأوروبي في سياق ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتعزيز التكامل الأوروبي من خلال تغيير ممارسات فرنسا اتّجاه الاتّحاد الأوروبي وتطوير دستور السيادة الأوروبية. وسيكون هناك تطابق مع موقف “ميتران” على الرغم من بعض التناقض الذي يعكس تفضيلاً لتكامل اجتماعي واقتصادي أعمق، ويثبّت في الوقت عينه موقف “ديغول” بدعم السيادة الوطنية. يتشارك ماكرون مع أسلافه في أولويّة “أوروبا الفرنسية” باعتبار أنّ سياسة ماكرون الأوروبية تتميّز بفكرة معيّنة وثابتة عن فرنسا، وفكرة غير مؤكّدة وثابتة عن أوروبا.
بإعادة انتخاب ماكرون سيكون هنالك توازن غير مؤكّد لسياسة فرنسا المرنة اتّجاه الاتحاد الأوروبي في سياق ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
اليمين القومي
سيكون اليمين قوميّاً جديداً، بحسب “لوبان”، لو وصلت إلى السلطة، متوافقاً مع شعارين عاطفيّين: “اجعلوا فرنسا عظيمة ” و”فرنسا أوّلاً”. يظهر في هذين الشعارين دعم اليمين للسيادة الوطنية بدلاً من السيادة الأوروبية، والتفضيل (عند الإمكان) للتعاون الثنائي أو المصغّر بدلاً من استخدام إطار العمل المتعدّد الأطراف داخل الاتحاد الأوروبي، والتداعيات الواضحة في ما يتعلّق بالحوكمة الأوروبية. والسؤال الذي يخطر في بالنا يرتبط بما يمكن أن يحدث في حالة التعايش. إذا لم تنجح الجبهة الوطنية في الحصول على الأغلبية المطلقة في الانتخابات التشريعية بعد الانتخابات الرئاسية، فهل يؤدّي ذلك إلى شلّ أوروبا بسبب أزمة النظام؟ ماذا سيحدث بدون التعايش؟ هل يؤدّي ذلك إلى “فريكسيت” (بالفاء نسبة إلى فرنسا) عن طريق الاستفتاء، أي خروج فرنسا من الاتحاد، مع عدم وجود رهاب فرنسي من أوروبا؟
إنّه الزخم في السباق نحو الإليزيه. وهو يعبر عن نمطية جديدة في إدارة الحملات الانتخابية، مختلفة عن سابقاتها التي تعاقبت طوال فترة الجمهورية الحالية الخامسة. فالحملات الانتخابية الفرنسية ترفرف بجناحَيْ الأزمات الدولية والسياسة الوطنية الفرنسية، ويبدو أنّنا أمام انتخابات فرنسية “بميتافيرس” الجمهورية السادسة باعتماد فرنسا وفق حاجاتها على عوامل الاستقرار في ظلّ الترتيبات الخطيرة للنظام العالمي الجديد وحروب الأنابيب والملفّات الدولية الساخنة حيث الأولويّة للحرب الأوكرانية والأزمة الدولية، ومنها اللبنانية. تلك الحرب الكونية على هذه البقعة، والمدخل لترتيب جديد لمناطق النفوذ في العالم التي استولت على مزاج الفرنسي وأخافته وأثّرت على قدرته الشرائية، والأزمة اللبنانية التي يخصّص لها مساحة في كلّ خطاب، ولعلّ عبارة “خلق وابتكار حلول” لمساعدة الواقع اللبناني هي دليل تشدّد لأولويّة الملف اللبناني لدى فرنسا، فبمساعدتها والأصدقاء جعلت منه أولوية على الرغم من كل المتغيّرات الدولية الكبرى.
إقرأ أيضاً: مرشّحو الإليزيه: نازي.. ويميني.. وماكرون
هي خصوصية الحملات الانتخابية الرئاسية في فرنسا بالتركيز بطريقة مكثّفة بشكل خاص على العديد من عناصر الحياة السياسية الوطنية والقومية والقارية والدولية، وسوف نشهد في الدور الثاني سعي حثيث لعقد اتفاقات لكسب كتلتهم التصويتية ولاكتساب النقاط والنسب عبر التجيير ويبدو أن ماكرون هو الأفضل والأوفر حظا لعزوف اليمين الكلاسيكي واليسار عن دعم لوبان. سيظهر أنّ الصدام المقبل في فرنسا هو بين الليبرالية والقومية الجديدة؟