يوم فلسطيني طويل: اغتيالات نابلس ترسم المشهد

مدة القراءة 4 د

ما أصعب أن تكون موضوعيّاً تماماً، أي محايداً، في معالجة الشأن الفلسطيني ووقائعه المتلاحقة. غير أنّ ما هو ممكن وبقدر من المعقوليّة، هو أن ترسم صورة للمشهد كما هو، أي بحقائقه المجرّدة أو المَعيشة.

سأختار رسم صورة لِما حدث في يوم واحد، هو ذلك اليوم القريب الذي كان فيه الفلسطينيون من أهل الموالاة يعدّون البيان الختامي للمجلس المركزي، وكان نظراؤهم من أهل المعارضة يكتبون بياناتهم الرافضة لِما سيصدر عن المجلس.

أمّا الرئيس محمود عباس، عميد قدماء المنظمة، فقد كان يعلّق الأوسمة على صدور زملائه الذين استحقّوا مكافأة نهاية خدمة بعدما أمضى كلّ واحد منهم نصف قرن أو أكثر في موقعه.

الرئيس محمود عباس، عميد قدماء المنظمة، فقد كان يعلّق الأوسمة على صدور زملائه الذين استحقّوا مكافأة نهاية خدمة

هذا ما حدث على مستوى الطبقة السياسية بشقّيْها الموالي والمعارض. أمّا على الصعيد الشعبي فقد نأت الغالبية العظمى من الناس بنفسها عن المتابعة. إذ انصرف القوم إلى همومهم المتوالدة.

الموظف ينتظر راتب آخر الشهر آملاً أن يتسلّمه كاملاً بعد اقتطاعين متتالييْن. وحين نقول “الموظف” فإنّنا نتحدّث عن أكثر من مئتي ألف رجل وامرأة يشكّلون هذا القطاع. ومن دون التوغّل في تصنيف أصحاب الهموم الذين هم كلّ القطاعات الأخرى.

الخلاصة أنّ هؤلاء جميعاً، أي أكثر من تسعين في المئة من الشعب الفلسطيني في الداخل الخارج، تخلّوا عن ترف متابعة إنجازات الطبقة السياسية واستنساخها لهذه الإنجازات باللغة والبيانات المكرّرة.

لكنّ هذا المشهد فيه مكوّن آخر لا يمكن التغاضي عنه وعن قدراته الفعّالة في التأثير على المدخلات والمخرجات لأيّ فعّالية فلسطينية ذات عنوان، إن لم نقل ذات محتوى، سياسي… فما هو؟

 اغتيالات نابلس

لا يمكن أن نغفل الجزء الإسرائيلي من المشهد، الذي يمكن رصده في الصورة العامّة بأشكال متعدّدة:

– بعضها جرى التعوّد عليه كالمظاهر الاحتلالية العسكرية التي لم تختفِ منذحزيران 1967.

– وهناك المظاهر الاستيطانية التي تتجدّد يوميّاً بقرارات حكومية يقرأها الفلسطيني على صدر صحفه.

– ومع الاحتلال العسكري والتمدّد الاستيطاني يتعاظم دور الميليشيات الرسمية ذات الشكل غير الرسمي، المسلّحة حتى الأسنان وبرخص وحماياتحكومية.

إلى جانب ميليشيات من نوع آخر تتألّف من “المستعربين” الذين يداهمون المدن والقرى الفلسطينية بالتناوب من دون كلل أو ملل، يعتقلون ويقتلون، وذلك حسب الحاجةوالأولويّات التي تحدّدها غرف عمليات الأجهزة الأمنيّة.

هذا الجزء الإسرائيلي بصوره المتعدّدة اقتحم كلّه المشهد في اليوم الذي اخترته. ولأنّ لكلّ مشهد ذروته، كانت الذروة في ذلك اليوم هي عملية اغتيال ثلاثة شبّان فلسطينيين في قلب مدينة نابلس المصنّفة حسب أوراق أوسلو بـA، أي منطقة السيادة الكاملة للسلطة الفلسطينية.

كان اغتيالاً فظّاً قُصد أن يتمّ في وضح النهار على هيئة إعدام يوجّه رسالة كُتبت بالرصاص والدم. رسالة وُجّهت ليس لطرف فلسطيني دون آخر، أي ليست للموالاة وحدها، وليست للمعارضة كذلك. انطوت رسالة عمليّة نابلس للموالاة على إحراج مدروس ومقصود لتضييق هامش وصدقيّة القرارات والتوجّهات، وتجسّدت الرسالة للمعارضة بمنحها مادّة تشكيك في خصومها أهل الموالاة.

 

نتائج التنسيق الأمني

ما جرى هو ثمرة التنسيق الأمني الذي يستحقّ الإدانة، وفي كلتا الحالتين فإنّ المردود سلبي جدّاً على كلّ مستويات المشهد الفلسطيني الرسمي والمعارض والنائي بنفسه.

إسرائيل هي صاحبة الإسهام الأكبر والأعمق في مجال السلب. وهي غير مطمئنة إلى ما تفعله ضدّ الفلسطينيين، وخصوصاً ضغط حقوقهم الكبرى في مجرّد تسهيلات هي قطرات صغيرة من بحر واسع. وما تزال تمارس بدعتها التي لم تنفع على مدى عقود من الاحتلال، والتي تسمّى بـ”العصا والجزرة”.

إسرائيل والحالة هذه لم تفلح في إخفاء صدمتها من تقرير “أمنستي” الذي رسم صورة وحشيّة لاحتلالها، ودمغ هويّتها وسياساتها بـ”العنصرية”. وحتّى على مستوى التقرير الاستراتيجي السنوي الذي يعدّه خبراء سياسيون وعسكريون وأمنيون واقتصاديون، فلم تستطع التلاعب بأولويّات التهديدات المباشرة للدولة العبرية، فجاء الوضع الداخلي الإسرائيلي كأوّل وأهمّ التهديدات، وجاءت الساحة الفلسطينية في غياب الحلّ الجذري لهذه القضية كثاني أخطر التحدّيات.

إقرأ أيضاً: “الجبهة الديموقراطيّة” والنصاب السياسيّ للشرعية

ولنا أن نتخيّل كيف أُنزل الخطر الإيراني إلى المرتبة الثالثة والأخيرة.

 لكن ما الحيلة وأصحاب القرار في إسرائيل يقرأون الواقع عكسيّاً، أي من الأسفل إلى الأعلى!

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…