“الجبهة الديموقراطيّة” والنصاب السياسيّ للشرعية

مدة القراءة 5 د

في المقالة السابقة التي كانت بعنوان “منظمة التحرير: ما كانت عليه وما آلت إليه”، كان شرحٌ بأنّ الإنجاز السياسي الأعظم، الذي حقّقته الثورة الفلسطينية، وهو منظمة التحرير، وصل في الوقت الراهن إلى حالة يُرثى لها من الضعف البنيوي وغياب الدور السياسي والقيادي. الأمر الذي أوصلنا إلى خلاصة في منتهى الغرابة، وهي أنّه حين احتاج إليها العالم ممثّلاً فعّالاً للشعب الفلسطيني وأسند إليها قيادة العمل السياسي قبل أوسلو وبعدها، وجدنا أهلها يهمّشونها إلى حدّ الإلغاء. وبعضهم راحوا يحوّلونها من ضرورة أساسية للحياة الوطنية والدور السياسي إلى جسم ثانوي يُدعى بين وقت وآخر لأداء وظيفة الغطاء الشفّاف لشرعيّة متآكلة ومتنازع عليها، سواء من داخل قواها أو من منافسيها الطامعين بالاستيلاء عليها وخدمة أجنداتهم الخاصة مستفيدين من شرعيّتها.

 تتعامى “الجهاد” عن كلّ ما يجري بشأنها، راضيةً من الغنيمة بالاستنكاف، و”الجبهة الشعبية” تدير ظهرها لمنظمة ترى أنّها انحرفت عن مسارها الذي كانت فيه من قديم الزمان

المسؤول عن هذا المآل هم الفصائل الذين تقوّت المنظّمة بهم وببنادقهم وباتّحادهم، وحين توقّف نموّهم انقلبت الصورة، إذ لم يعد لهؤلاء الفصائل ما يتقوّون به سوى التشبّث بحصصهم الموروثة من الأزمان الغابرة.

اضطرّ الرئيس محمود عباس إلى تجديد شرعيّة بديلة عن الشرعيّة التي أُجّلت أو أُلغيت، وهي شرعية الانتخابات. فزوّد رئات المنظّمة ببعض الهواء من خلال إحياء ذلك الجسم المهمل المسمّى بـ”المجلس المركزي”، الذي تواطأت فصائل المنظمة على نقل صلاحيّة “المجلس الوطني” إليه. فهو الأسهل في مجال السيطرة بفعل قلّة عدد الأعضاء، والأسهل أيضاً في ترتيب المخرجات والقرارات.

أعلن دعوة المجلس المركزي إلى الانعقاد، وُجِّهَت الدعوات. وخشيةً من مثالب المشاركة الضعيفة في الكمّ والنوع، فتح باباً واسعاً لصفقات توفّر، ولو بنسبة ما، النصاب السياسي. وفي هذا السياق لا بدّ أن يتركّز الجهد على “الجبهة الديموقراطية”، الحليف التاريخي لـ”فتح” في كلّ حالاتها وتوجّهاتها، وإحدى أهمّ فقرات العمود الفقري لمنظّمة التحرير، ومن أجلها اُختُرع مصطلح “النصاب السياسي”، الذي يبدو “النصاب القانوني” حياله لا قيمة له.

“الجبهة الديمقراطية”

الجبهة الديموقراطية تاريخيّاً هي المنظّر اليساري لتوجّهات “فتح” اليمينيّة. كانت الأقدر على التنظير المبكر لحلّ الدولتين حين كان ذلك محرّماً. وهي أيضاً الأقدر على اللعبة المزدوجة التي قوامها اللغة التنظيرية للشيء وعكسه، والتي تحتاج إلى براعة في المواءمة بين المبدئية، والحسابات البراغماتية المعاكسة للمبدئية. ولأنّها كانت دائماً بحاجة إلى حليف داخلي قويّ تعتمد عليه، فوجدته في “فتح” ياسر عرفات. وحين كانت بحاجة إلى حليف شعاريّ وجدته في توأمها القديم “الجبهة الشعبية”. وعند الحاجة كانت تتأبّط ذراعها في تحالف سياسي، وعند الحاجة أيضاً تفتكّ منها. وكان التنظير للتحالف والافتكاك دائماً في متناول لغة وقدرة المنظّر الأكبر، الرفيق والأخ نايف حواتمة، أطال الله عمره.

في الإعداد للمجلس المركزي، وإدراكاً منها لأهميّة ثقلها في مجال النصاب السياسي، تبدو “الجبهة الديموقراطية” هي الأقدر من كلّ الفصائل الأخرى على ممارسة تكتيكات ضغط على المحتاجين إليها – وهم دائماً من أهل السلطة و”فتح” – لتحصل على كلّ ما تريده تنظيميّاً وماليّاً. وللرفاق في “الجبهة الديموقراطية” باع طويل في تفسير لماذا يقاطعون ولماذا يشاركون.

النصاب السياسي يصلح أيضاً لأن تستخدمه الفصائل الأصغر والأقلّ أهميّة من “الديموقراطية”. فهذا فصيل يرهن مشاركته بحصوله على رئاسة لجنة من لجان المجلس الوطني التي لا تعمل، وذاك فصيل يريد الإفراج عن مستحقّاته الماليّة التي عرف الرئيس عباس كيف يستخدمها في لعبة الترويض والسيطرة، وذلك فصيل يريد موقعاً في هيئة رئاسة المجلس الوطني ليس من أجل توفير فاعليّة في القرار، حيث لا قرار للمجلس، بل من أجل التباهي أمام الآخرين وإثبات التفوّق ولو الشكلي عليهم.

“حماس” و”الجهاد”

كلّ ذلك لا يتمّ في غرف مغلقة، وإنّما على مرأى من كلّ راغب في المتابعة. وإذا كانت النتيجة هي توافر النصاب السياسي أو ما هو قريب منه، فإنّ خصوم المنظمة بوضعها الراهن لا يخفون سعادتهم بهبوط مستوى الحوار والمساومات. فـ”حماس” لا تزال خارج المنظمة وتنافس على القيادة الشاملة، وتبرّر إحجامها عن الدخول إليها بما يجري على مستوى فصائلها من تقاسمات للنفوذ فيها.

مثلها تتعامى “الجهاد” عن كلّ ما يجري بشأنها، راضيةً من الغنيمة بالاستنكاف، و”الجبهة الشعبية” تدير ظهرها لمنظمة ترى أنّها انحرفت عن مسارها الذي كانت فيه من قديم الزمان.

إقرأ أيضاً: منظّمة التحرير…. ما كانت عليه وما آلت إليه!!

أمّا الناس الذين يتابعون المساومات والمساجلات والصفقات والبيانات، وهم قلّة على كلّ حال، فينأون بأنفسهم كثيراً عن رهانات الأمس حول المنظمة. فما يجري في داخلها ومن قبل عائلاتها لا يشجّع على استرجاع الرهانات القديمة.

مواضيع ذات صلة

روسيا ولعبة البيضة والحجر

منذ سبع سنوات كتب الأستاذ نبيل عمرو في صحيفة “الشرق الأوسط” مستشرفاً الأيّام المقبلة. لم يكتب عمّا مضى، بل عمّا سيأتي. نستعيد هذا النصّ للعبرة…

سورية القويّة وسورية الضعيفة

سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ…

الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟

سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في…

الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة

لم يتردّد الشيخ سالم الرافعي رئيس هيئة علماء المسلمين في لبنان في الانتقال إلى دمشق التي لم يزُرها يوماً خوفاً من الاعتقال. ظهر فجأة في…