يسير لبنان، كمن يسير في نومه، نحو الحرب. لا يحاجج أحد، بطبيعة الحال، أنّ لبنان معزول تماماً عن الحرائق التي تحيط به، لا سيما حرب غزة التي أتمّت يومها المئة أمس. بيد أنّ الموقف الرسمي الذي عبّر عنه لبنان خلال اجتماع حكومة تصريف الأعمال الأخير، جاء فاقعاً لجهة ربط مصير البلاد أكثر بالتطوّرات السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط التي لا يمكن التنبّؤ بها من جهة، ولا تملك الحكومة ذرّة سيطرة على مجرياتها، من جهة ثانية.
ميقاتي ووحدة الساحات
عبر وثيقة رسمية يقول رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي: “أبلغنا جميع الموفدين أنّ الحديث عن تهدئة في لبنان فقط أمر غير منطقي، وانطلاقاً من عروبتنا ومبادئنا، نطالب بأن يصار في أسرع وقت ممكن إلى وقف إطلاق النار في غزة، بالتوازي مع وقف إطلاق نار جدّي في لبنان”. ويؤكّد الموقف الرسمي على أنّ لبنان لا يقبل “بأن يكون أخوة لنا يتعرّضون للإبادة الجماعية والتدمير، ونحن نبحث فقط عن اتفاق خاصّ مع أحد”.
إنّ أخطر ما في هذا الموقف هو إلغاؤه المسافة الفاصلة بين موقف الحزب العقائدي من الصراع ونظريّة “وحدة الساحات” وبين موقف الحكومة اللبنانية، التي تبدو هنا وكأنّها تبنّت نظرية الحزب، بكلّ ما تفرضه من تحدّيات على استقرار وسلامة البلاد وأهلها. عبر هذا الربط المفاجىء، يحدّ ميقاتي من استقلالية لبنان في حلّ قضاياه الداخلية ومعالجة مصادر التوتّر الإقليمي المتعلّقة به وحده، ويجعل الاستقرار اللبناني الهشّ أسير التصعيد الذي قد تختاره قوى وتنظيمات وجهات غير لبنانية.
الاستراتيجية الهجومية للطرفين لا تخلو من مخاطر زيادة حدّة التصعيد، وهو ما قد يؤدّي إلى صراع أوسع نطاقاً سيكون مكلفاً لكلّ من الجانبين
ولئن كان لبنان يراهن على الجهود الدبلوماسية التي يبذلها، أو تلك التي تُبذل من قبل آخرين باتّجاهه، بغية تبديد أسباب الحرب، فإنّ الربط الذي حصل بين “استقرار لبنان واستقرار غزة” والتنازل الطوعي عن حقّ لبنان بإيجاد مخارج خاصّة له بمعزل عن مشاكل الآخرين، سيضيف تعقيدات جديدة إلى المفاوضات الدولية الجارية، التي تمثّل آخر شبكات الأمان الباقية لهذا البلد الممزّق.
في هذا السياق، تفيد الوقائع على الأرض، أكان بسبب رداءة أداء الحكومة، أم بسبب السلوك العسكري للحزب، أنّ القرار 1701، بوصفه العنوان الأبرز لموقف لبنان الدبلوماسي وعلاقته بالمجتمع الدولي، بات من الترهّل والعجز بمكان، ما جعل البلاد تفقد البقيّة الباقية من مرتكزات أمنها واستقرارها.
فبينما تنافح الحكومة اللبنانية بالقرار 1701 وتدعو إلى الالتزام به، فإنّها تغضّ الطرف في الوقت نفسه عن تصرّفات الحزب التي تتعارض مع هذا القرار ذاته، بشكل يسلّط الضوء على الفجوة الكبيرة بين الموقف الرسمي اللبناني والحقائق على الأرض. منذ 8 تشرين الأول، ينشط الحزب علناً في نشر قواته واستخدام الأسلحة المتنوّعة في المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني، طارحاً أسئلة جدّية حول الكيفيّات التي وصل بها هذا السلاح إلى حيث يُستخدم الآن. مثل هذا السلوك يشكّل انتهاكاً واضحاً لنصوص القرار 1701، ويعزّز الانطباع بعدم فاعليّته، وانعدام جدّية الحكومة اللبنانية بتطبيقه والالتزام بمندرجاته.
تراخٍ وتذاكٍ
هذا المزيج من التراخي والتذاكي اللذين تمارسهما الحكومة اللبنانية، التي باتت مطيّة تامّة للحزب، يعزّز موقف إسرائيل التي تدعو العالم إلى النظر للقرار 1701 من خلال عدسة مختلفة. بالنسبة لإسرائيل فإنّ القرار الذي خدم نسبياً احتياجاتها الأمنية المباشرة بعد حرب 2006، ما عاد المدخل الفعّال لمعالجة التحدّيات الأمنيّة الطويلة الأمد، بعد حرب غزة. فالحسابات الاستراتيجية لإسرائيل تذهب اليوم أبعد من حدود القرار 1701، إذ تسعى تل أبيب إلى الحصول على ضمانات وتدابير أمنيّة أوسع لمواجهة التهديدات والسيناريوهات المشابهة لهجوم حماس يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الفائت. لا يعكس الموقف الإسرائيلي خلافاً مع لبنان حول كيفية تفسير القرار 1701 والتصرّف بموجبه لمعالجة تعقيدات الأمن الإقليمي، بل يسلّط الضوء أيضاً على موقف إسرائيلي جذري ما عاد مقتنعاً بقدرة القرارات الدولية، ذات الطبيعة التسوويّة، على التعامل مع الصراعات الجيوسياسية المتجذّرة، واللحاق بتطوّراتها.
وعليه، فلا أداء الحكومة اللبنانية، ولا ما تظنّ أنّها تتسلّح به من أدوات سياسية ودبلوماسية، يبدوان مناسبين لحجم المخاطر التي تحاصر لبنان وتهدّد أمنه واستقراره، على نحو غير مسبوق في تاريخه.
أمّا الظنّ أنّ تفضيل إسرائيل للحلول السياسية هو نظير عدم استعدادها للحرب، فهو خطأ قاتل في حسابات لبنان، لا سيما إن لم يحسن المعنيون قراءة استراتيجية الاغتيالات، لقادة الحزب الميدانيين أو لقادة حماس والحرس الثوري في كلّ من لبنان وسوريا.
تسعى إسرائيل، عبر الاغتيالات في داخل الهيكل القيادي الميداني للحزب، إلى حرمانه من الشخصيات البارزة التي تلعب أدواراً حسّاسة، بما يؤدّي إلى تعطيل قدراته العمليّاتية، وخلق فراغ ولو مؤقّتاً في القيادة، من شأنه أن يربك العمليّات المخطَّط لها. كما أنّ استعراض تفوّقها الأمني يهدف إلى غرس الشعور بالضعف وعدم اليقين داخل صفوف الحزب، بكلّ الانعكاسات المحتملة على الروح المعنوية لمجموعاته وقادته، وهو ما قد يدفعهم لأن يكونوا أكثر حذراً وأقلّ فعّالية.
تثبت هذه الأهداف جدّية إسرائيل في سعيها إلى إعادة تشكيل المشهد الأمنيّ الإقليمي وفق قواعد جديدة، تقوم على إضعاف الحزب، ودفعه للاقتناع بأنّ الاستمرار في استراتيجيته الحالية أمر غير ممكن. ولئن كان الهدف الأساسي هو جلب الحزب أو الراعي الإيراني إلى طاولة المفاوضات، في ظلّ ظروف أكثر ملاءمة لإسرائيل، فإنّ الأخيرة لن توفّر كلّ ما أوتيت من أدوات واستراتيجيات لتغيير قواعد اللعبة على حدودها الشمالية وما خصّ علاقتها بلبنان، أكان بالسياسة أم بغيرها.
إقرأ أيضاً: هكذا ستكون الحرب المقبلة في لبنان
لا شيء مضمون بالطبع، لا في حسابات إسرائيل ولا في حسابات لبنان. والاستراتيجية الهجومية للطرفين لا تخلو من مخاطر زيادة حدّة التصعيد، وهو ما قد يؤدّي إلى صراع أوسع نطاقاً سيكون مكلفاً لكلّ من الجانبين.
حرب غزة أدخلت لبنان في عملية تفاعل معقّدة بين التكتيكات العسكرية للحزب والحسابات الاستراتيجية لإسرائيل والرهانات الجيوسياسية لإيران، وسط خلوّ المشهد الرسمي اللبناني من أيّ شجاعة قيادية أو حكمة سياسية ووطنية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@