العجز اللبنانيّ المتكامل.. جعجع مثلاً ومثالاً

مدة القراءة 5 د


ما لا يجب أن يمرّ مرور الكرام حتى على أذنَيْ أطرش هو رسالة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير إلى رئيس مجلس النواب. الأوّل استحسن التسوية على التمديد لقائد الجيش فدعا الثاني إلى “حوارات جانبية” للتفاهم على شخص رئيس الجمهورية المُقبل. فكيف صار جعجع مشجّعاً على “حوارات جانبية” بدل “مجلس النواب كهيئة انتخابية”؟

دعك من الرأي في ما إذا ستتكرّر مسألة وصول قائد للجيش إلى رئاسة الجمهورية. المهمّ أنّ رئيس مجلس النواب بدا مهندساً لاستمرار هياكل الجمهورية لا الجمهورية ذاتها. الأخير على قدر من البراعة السياسية. استغلّ ضعف الجميع بلا استثناء ليُمرّر ما لا يُمرَّر. عادته التي يفرح بها لبنانيون كُثر وتسمّى “إخراج الأرانب” صانت نظام الجمهورية المتآكل في السنوات الأخيرة.

في النظام الجمهوري الديمقراطية هي عُصارة مؤسّسات. ما يحصل على مستوى رئاسة الجمهورية صار مقيتاً ويبعث على الملل من ادّعاء النظام الجمهوري البرلماني الديمقراطي. مؤسّسات البلد بهذا المعنى تعكس أحجام وأوزان ما يريده الخارج. كلّ الخارج بلا استثناء: الشرق والغرب.

ما لا يجب أن يمرّ مرور الكرام حتى على أذنَيْ أطرش هو رسالة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير إلى رئيس مجلس النواب. الأوّل استحسن التسوية على التمديد لقائد الجيش فدعا الثاني إلى “حوارات جانبية” للتفاهم على شخص رئيس الجمهورية المُقبل

جعجع ينزل عن الشجرة

ليس مهمّاً الآن إن كان جعجع يتعجّل أمر الرئاسة من عدمه في لحظة احتدام إقليميّ، وقبل استدارة الحزب نحو الداخل. المهمّ أنّه نزل عن الشجرة التي صرخ من أعلاها أن “لا تشريع من دون رئيس للجمهورية”. ذهب طائعاً إلى التمديد وكأنّ قيادة الجيش تخوض غمار حرب لا هوادة فيها. والجيش في الجنوب وبمعرفة يقينية من كلّ اللبنانيين تكاد أدواره توازي ما يقوم به الصليب الأحمر لجهة الإسعاف بالتعاون مع قوات الطوارىء الدولية “اليونيفيل” التي ما كلّت ولا ملّت منذ عام 1978 من إحصاء الخروقات وكأنّها مؤسّسة إحصاء.

قد يكون مفهوماً ذهاب جعجع إلى برّي. ذلك أنّ كليهما يجمعهما ضعفٌ تجاه الآخر على ما يقولان. هذا شأن يخصّ الرجلين ولا يعني اللبنانيين إلا ما ينتج عنه دستورياً وسياسياً. وفي الحالين فإنّ ما نتج لا يتحدّث إلا عن ترهّل سياسي ودستوري في آنٍ. وإقرار التمديد لقائد الجيش ما كان ليحصل لولا تدخّل رئيس حركة أمل مع “تكتّل الاعتدال الوطني” على قاعدة التمديد لمنصب مارونيّ يصحبه تمديد لموقع سُنّيّ هو المدير العامّ لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان.

التستّر على المأساة اللبنانيّة

مفهوم بالطبع أن يلقى ارتياحاً شعبياً التمديدُ الذي هو في أحد وجوهه تستُّر على المأساة اللبنانية وجذرها منذ تكليف الوصاية السورية بإدارة شؤون البلد وأهله. هذه الإدارة التي استمرّت حتى عام 2005 لحظة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وقبل حلول السطوة الإيرانية واستمرارها حتى الآن كانت تعلن على الدوام أنّ اللبنانيين لم يبلغوا سنّ الرشد السياسي بعد.

لكن ما ليس مفهوماً على الإطلاق هو التراجع “المبدئي” لكلّ القوى المسيحية عن عناوينها العريضة وكليشيهاتها السياسية التي أكّدت عدم ذهابها إلى التشريع من دون انتخاب رئيس للجمهورية، وفي مقدّمهم “القوات اللبنانية”. هذا التراجع كان بالغ الدلالة على عجز لبنانيّ متكامل. والعجز اللبناني ولئن صار عادة سياسية ودستورية، فإنّه على معنى من المعاني دلالة على قدرته على ابتداع “حلول” سياسية.

ليس مهمّاً الآن إن كان جعجع يتعجّل أمر الرئاسة من عدمه في لحظة احتدام إقليميّ، وقبل استدارة الحزب نحو الداخل. المهمّ أنّه نزل عن الشجرة التي صرخ من أعلاها أن “لا تشريع من دون رئيس للجمهورية”

لكنّ هذا التستّر اللبناني على النظام ينهش منه وبه. ومفردة “الديمقراطية التوافقية” التي اعتُمدت بـ”الترويكا” وتحت الوصاية السورية، وسُمّيت بالاسم لاحقاً، هي الوحش الذي ينهش كلّ ما بقي من لبنان. فائض الحرّية في البلد لا يبنيه. هذه فوضى. الديمقراطية المُنزّهة عن العقل الأحادي وعبر المؤسّسات هي فقط التي يمكن أن تبني دولةً.

رغبات لبنانيّة جامحة

التقلّب السياسي اللبناني هو جزء تكويني من العيش السياسي وقرينه الدستوري. عليه دلالات كثيرة وبراهين أكثر. ذلك أنّ الأفرقاء اللبنانيين لديهم رغبة جامحة بممارسة الشعبوية. هؤلاء الأفرقاء يندُر أن جهدوا للذهاب نحو دولة المواطنة. استسهلوا كثيراً، وعلى الدوام، خلق العداوات بعضهم ضدّ بعض كجزء من الشعبوية بما هي ضدٌّ للمبادىء.

كلّ الأفرقاء، وعلى خطى الدكتور جعجع، نزلوا عن الشجرة. الحزب كعادته تملّص بدعوى “جبهة الجنوب” التي فتحها، وهي أشبه بـ”مال الوقف”، لا تُصرف في غزّة وما عادت قادرة على إيقاف الجنود الإسرائيليين “ع إجر ونص”. كتلة الاعتدال (السنيّة) “خشيت” على التوازن. زميلتها “التنمية والتحرير” التي يرأسها الرئيس برّي هي طوع بنان رئيسها نبيه برّي. كتلة القوات كان همّها أن تثبت شعار “نحن فينا ونحن منقدر”.

إقرأ أيضاً: التمديد لقائد الجيش… ربط نزاع إيرانيّ مع واشنطن

إذا صحّ أنّ التقلّب هو سمة الجمهورية الثانية، صحّ أنّ سردية الأحزاب قديمها وجديدها ما عاد يُعوَّل عليها في بناء دولة. وإذا أُضيف إلى القوى البرلمانية عجزها المتكامل وقدرتها التشغيلية لقلق اللبنانيين وسجالات “المصادر”، جاز لنا أن ننتظر مزيداً من غرائب الممارسة السياسية والدستورية، واستطراداً الاقتصادية.

الأخطر في ظلّ الضمورَين الدستوري والسياسي هو التصدّع الذي أصاب كلّ القطاعات التعليمية والطبّية والتجارية والقضائية. فهنا علينا أن ننتظر في مقبل الأيام تقلّبات كثيرة في الذهاب إلى انتخابات رئاسة الجمهورية. ذلك أنّ التقلّبات، لا البراغماتية، صارت حرفة لبنانية تمليها الشعبوية في ظلّ اليباب السياسي والمجتمعي. وفي حال كهذه، ما عاد يُنتظر من هذه البلاد خير. ذلك أنّ بلداً يصنع العجز فيه حلّاً لا يعني إلا أنّ اللبنانيين يكرّرون “ما ذاقوه وعلموه”.

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…