كركوك، فسيفساء العراق ومصدر ثروته العرقية والدينية والثقافية والتاريخية، تحت المجهر من جديد. تسير في هذه الآونة نحو تقاطع طرق خطير قابل للتحوّل إلى منحدر يطيح بعقود طويلة من التعايش واللحمة بين الكرد والعرب والتركمان.
وقع الغزو الأميركي قبل عقدين من الزمن. ثمّ ظهر المفوّض السامي بول بريمر ليرسم خرائط العراق الجديد بتوازناته السياسية والحزبية. ويكون قدر كركوك هذه المرّة الرضوخ والاستسلام لعنوان “المناطق المتنازَع عليها”، والمادّة 140 من دستور عام 2005.
هل هو عامل الثروة النفطية في المدينة؟ أم الرغبة الأميركية في إطلاق يد البشمركة في شمال العراق؟ أم المقايضات السياسية بين العراقيين الذين أرضاهم تقاسم السلطة شيعياً وكردياً على حساب العرب السُّنّة الذين عزلوا أنفسهم عن لعبة واشنطن في العراق لسنوات، فدفعوا الثمن باهظاً بعد الولادة العسيرة لنظام سياسي ودستوري فدرالي الاسم، كونفدرالي التطبيق والممارسة؟
لا تملك إربيل الثقل الحزبي والسياسي والشعبي الذي يمكّنها من السيطرة على قرار المدينة. تستفيد من الخلافات القائمة بين بقيّة الشرائح هناك، إلى جانب جلوسها باحتراف على كرسي الإمساك بلعبة التوازنات السياسية والحزبية في المعادلة العراقية
مواجهة عرقية وقومية.. لا مذهبية
تقول حالة الاحتقان الشعبي والحزبي في المدينة إنّ الأمور تختلف هذه المرّة. المواجهة في كركوك عرقية وقومية أكثر منها مذهبية. التراضي والجلوس أمام طاولة تقاسم الكعكة المحلّية مرتبطان بتفاهمات خارجية صعبة ومعقّدة. أحد الأطراف سيدفع الثمن ويضحّي بما يملك من أوراق، واللاعبون الإقليميون التركي والإيراني والأميركي دائمو الجهوزية للدخول بثقلهم على الخطّ.
تعلن أنقرة على لسان وزير خارجيّتها هاكان فيدان أنّها ترصد عن قرب ما يجري في كركوك. ويعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أنّ تعريض بنية كركوك للخطر يعني تهديد بنية العراق بأكملها. لا يمكن بالمقابل تجاهل الإنذار الإيراني الموجّه إلى بغداد وإربيل على السواء والذي يحضّ على التعامل مع ما تريده طهران في موضوع المجموعات الكردية الانفصالية التي تحاول الاستفادة من الأراضي العراقية والدعم اللوجستي المقدّم لها. فهل تتوحّد السياسات التركية والإيرانية في شمال العراق كما حدث قبل 6 سنوات في مواجهة إربيل، وبالتالي واشنطن، لإسقاط ورقة كركوك من يدها؟
يهاجم الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني العرب والتركمان الذين توحّدوا قبل 3 أعوام في مواجهة إربيل التي تردّد أنّها ستتمسّك بما قُدّم لها من وعود وضمانات سياسية ودستورية بإشراف الضامن الأميركي، وأنّها لن تفرّط بمكتسبات الدستور العراقي الذي منحها المادّة 140 المتعلّقة بمدينة كركوك والمناطق المتنازَع عليها في شمال العراق. بينما ترى بقيّة الشرائح أنّ الأكراد أهدروا فرصتهم في عام 2017 عندما حرّكوا ورقة الاستفتاء على الانفصال مستغلّين الأجواء السياسية والأمنيّة القائمة.
كركوك ضحية نفسها أوّلاً
كان “الإطار التنسيقي” قد وعد “شركاء الوطن” من الأكراد والسُّنّة بتلبية مطالبهم، مقابل دعمهم حكومة محمد شيّاع السوداني. لكنّ حراك الشارع في كركوك، الذي لا نعرف تماماً حصّة قيادات بغداد الحزبية والسياسية فيه ولا أدوارهم، جمّد رغبة البرزاني، بعدما دخلت المحكمة العليا على الخطّ. يعوّل التركمان على الاحتكام إلى القضاء وحلفائهم الجدد في كركوك، لكنّهم ينظرون باتجاه أنقرة والمجتمع الدولي أيضاً. ويشرب أكراد كركوك هذه المرّة من الكأس نفسها التي صنعها اللاعب الأميركي ليسقي منها التركمان والعرب.
سقطت مدينة كركوك العراقية من جديد ضحية عملية الشدّ والجذب ومناورات الكرّ والفرّ بين مكوّنات المدينة ولعبة التوازنات السياسية والحزبية العراقية والتدخّلات الخارجية المؤثّرة منذ عقد تقريباً. يريد البعض تحويل ثروة الهويّات الثلاث الكردية والعربية والتركمانية، إلى جانب أقلّيات عرقية ودينية أخرى، إلى سبب للخلافات وللمواجهات والتفتيت.
تقول حالة الاحتقان الشعبي والحزبي في المدينة إنّ الأمور تختلف هذه المرّة. المواجهة في كركوك عرقية وقومية أكثر منها مذهبية
بدلاً من البحث عن فرص للخروج من حالة الانسداد التي تعيشها وتضميد الجراح العميقة، ترجّح تفضّل كركوك البقاء تحت تأثير ما قدّمه المبعوث الأميركي وصانع الدستور والتفاهمات والتوازنات في “العراق الجديد” بول بريمر:
– من مادّة “المناطق المتنازَع عليها” في عام 2005.
– إلى فشل تنفيذ محتوى المادّة 140 الدستورية المتّصل بمستقبل المدينة.
– ثم دخول مجموعات “داعش” على الخطّ.
– بعدها معركة التحرير حتى عام 2017.
– ثم محاولة إقليم كردستان الانفصال عن العراق في معركة توحَّد العراق والإقليم ضدّها.
– وأخيراً المرحلة الجديدة التي بدأت بعد تراجع نفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني وولادة تركيبة سياسية حزبية جديدة في المدينة.
– أما الانتخابات المرتقبة بعد أسابيع، والتي حملت معها تفاهمات سياسية مختلفة بين الحكومة في بغداد وقيادات إربيل، فقد فجّرت الشارع مجدّداً هناك، خصوصاً من قبل مجموعات عرقية عربية وتركمانية توحّدت ضدّ إعادة تسليم المدينة لحزب مسعود البرزاني.
لا تملك إربيل الثقل الحزبي والسياسي والشعبي الذي يمكّنها من السيطرة على قرار المدينة. تستفيد من الخلافات القائمة بين بقيّة الشرائح هناك، إلى جانب جلوسها باحتراف على كرسي الإمساك بلعبة التوازنات السياسية والحزبية في المعادلة العراقية. الدور الأميركي كبير ومهمّ هنا بعد عملية الغزو قبل عقدين، لكنّ ما يواجه إربيل اليوم هي التفاهمات القائمة بين العديد من اللاعبين المؤثّرين في المشهد العراقي وتراجع النفوذ الأميركي ودخول تركيا وإيران وعواصم عربية بثقلها على الخطّ في السنوات الأخيرة.
يبدو أنّ البعض في العراق يريد أن يسأل ولو متأخّراً قيادات إربيل عن كيفية صدور قرار الذهاب إلى الاستفتاء على الانفصال وعن المستند القانوني والدستوري الذي منحها هذا الحقّ؟ وكيف تمّ التعامل لاحقاً مع الذين أقدموا عليه؟ وما هي المسؤوليات السياسية والدستورية والعدلية التي تحمّلوها؟
كان دستور بريمر للعراقيين قبل عقدين تفتيتيّاً أكثر منه موحِّداً وجامعاً. وتنتظر كركوك قدرها على طريق اللبننة والبلقنة. لكن يستحقّ تاريخها وحضارتها وخصوصيّتها غير تفتيت المفتَّت
محاولة إربيل تذكير العراقيين بالمادّة 140 من الدستور باتت مسألة صعبة حتى لا نقول مستحيلة. إربيل هي التي خرجت عن روح المادّة ومضمونها من خلال محاولة الانفصال عام 2017، وهي تدفع ثمن ذلك اليوم.
اللبننة.. أو البلقنة
ترى القيادات الكردية في كركوك أنّها “قلب كردستان” وجزء لا يتجزّأ منها. وتتساءل كيف ولماذا يبقى محافظ عربي على رأس السلطة السياسية هناك؟ ربّما تكون الإجابة عند من اتّخذ قرار الذهاب نحو الاستفتاء قبل 6 سنوات في إقليم كردستان بشكل منفرد وبما يتعارض مع موادّ الدستور العراقي وتجاهل التوازنات الحسّاسة في العراق.
درس كركوك الأوّل هو جزء من دروس العراق ككلّ: غزو أميركي في عام 2003 للأراضي العراقية من دون أيّ غطاء قانوني وسياسي أمميّ، وتقديم مصالح وحسابات واشنطن وبعض شركائها الغربيين على مصالح وحسابات العراقيين تحت ذريعة إزاحة نظام صدّام حسين، وفتح الطريق أمام بريمر ليفرض مسوّدة دستور عراقي جديد يهدف إلى تغيير شكل النظام، ومنح حلفاء أميركا المحلّيين حصصاً وصلاحيات وفرصاً دستورية وسياسية واقتصادية أكبر، ثمّ ترك الشعب العراقي وسط أزمات سياسية ودستورية وأمنيّة من خلال فراغات لا تُسدّ إلا عبر المزيد من الشرذمة والتشتّت والمواجهات كما يُراد اليوم في كركوك.
إقرأ أيضاً: إن ذهبت كركوك فلا عراق بعدها
دخول المحكمة الاتحادية العليا في بغداد على خطّ الأزمة بإصدار “أمر ولائي” يوقف تسليم المقرّ الرئيسي للحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يسيطر عليه الجيش العراقي، بعد ساعات من قرار حكوميّ مماثل بـ”التريّث” في تسليم المقرّ، ضمن مساعي احتواء الأزمة المتصاعدة إلى حين حسم الدعوى المقامة في هذا الشأن، قد يكون فرصة قانونية ودستورية وسياسية للجميع في العراق لا يمكن التفريط بها، خصوصاً إذا ما تقدّمت النوايا باتجاه الحفاظ على الأمن والاستقرار في محافظة كركوك وتمّ تغليب الوحدة الوطنية والتعايش السلميّ ومصلحة الشعب العراقي.
يجهد النحّات الغربي منذ عقود في العمل على صناعة الخلطة التي تلائم الكثير من دولنا وشعوبنا في المنطقة كمخرج للاستقرار والتعايش!
كان دستور بريمر للعراقيين قبل عقدين تفتيتيّاً أكثر منه موحِّداً وجامعاً. وتنتظر كركوك قدرها على طريق اللبننة والبلقنة. لكن يستحقّ تاريخها وحضارتها وخصوصيّتها غير تفتيت المفتَّت.